يجب أن يتوقف التنابز بالمذاهب إلى الأبد، على الأقل فيما يخص المحسوبين على المسؤوليات الرسمية والسياسية والتخطيط للمستقبل، وكذلك الدعاة والأئمة وفقهاء المذاهب بصيغة التعميم. يجب إبعاد التحريض الفقهي المذهبي عن التفقيه الحقيقي في الدين.
ماذا جنينا من التنابز والتفاضل بالمذاهب غير الحروب والبغضاء والإنهاك المتبادل، بحيث أصبحت الشعوب المسلمة هي الأكثر تخلفا وإذلالا واستباحة واعتمادا على الأمم الأخرى.
أقولها عن نفسي، لم تعد تهمني الآراء المحرضة من بعض فقهاء المذاهب؛ لأنني كسرت طوق التبعية لهؤلاء الفقهاء المحرضين، منذ أدركت أن المسألة تحركها أهداف دنيوية، تطلب الجاه والمال والشعبوية لدى بعض منهم ولا أعمم فهناك من هم حَسنُو النية ويريدون به صدقا ثواب الآخرة. يكفيني من ديني أنني ملتزم بالأصول، وبمذهبي، ولا شأن لي بمن يحاولون فرض أنفسهم أوصياء على عباد الله بالجملة، سواء على أولئك الذين على مذهبهم أو على خلافه. وبما أنني أرفض فكرة ومبدأ الفقهاء المحرضين فإنني من باب أولى أستنكر على أي مسؤول رسمي مؤتمن على المصلحة العامة، السياسية والإدارية، أن يتدخل في صراعات وتفاضلات المذاهب. حجتي في هذا الاستنكار تقوم على حقيقة أن المؤتمن من قِبل الدولة على المصلحة الوطنية العامة مسؤول أولا عن إدارة الشأن الموكل إليه من ولي الأمر؛ ليصلح ويصالح بين الناس المشمولين بحماية وعدالة وقوانين الدولة دون تمييز. الدولة أوكلت إليه بالأساس تلك المسؤوليات لهذا الغرض فقط لا غير، وعليه أن يتقيد بذلك. حجتي الأخرى على المسؤول المؤتمن تقوم على كونه يعرف بالممارسة اليومية التنوع الطيفي في تركيبة المجتمع الخاضع لحكم وإدارة شؤون هذه الدولة، ومطلوب منه بأداء القسم مراعاة ذلك، والتخلي عن عواطفه وميوله الخاصة في الشأن الإداري والإشرافي.
أعرف كما يعرف الجميع أن ما استقر في النفس من قناعات مذهبية هو في الأصل والجوهر نتاج التربية التي خضع الإنسان لها منذ كان عجينة قابلة للتشكيل أثناء الطفولة والشباب المبكر. بعد عبور أي شخص لهذه المرحلة يصعب وقد يستحيل على أي أحد أن يغير في قناعاته الدينية والمذهبية؛ لأنها أصبحت جزءا أساسيا من فهمه للدين ومن هويته الاجتماعية والشخصية. من الممكن قبول التعديل والتبديل في كل قناعة دنيوية – علمية – معيشية، أو حتى سياسية، عندما ترجح صحة غيرها، كما أن هذه القناعات الجديدة بدورها قد تكون مؤقتة قابلة للتعديل والاستبدال، لكن ذلك لا يشمل القناعات الدينية والمذهبية.
إن كل ما يدور حولنا من تكفير واستباحة حرمات وتدمير سببه الأول استمرار الخضوع للتعبئة المذهبية وتفاضل المذاهب، لأغراض واضحة نستطيع استنتاجها ببساطة متناهية من القراءة المقارنة للتاريخ. الآن مع تغير الثقافات وشروط الاستقرار والتعايش تغير الزمن، وتعدى تلك المرحلة المرتكسة في الماضي بما كان لأهلها من عقليات ومفاهيم محدودة ومحددة بظروفهم الضيقة لشروط التعايش.
ثار في الأيام الماضية لغط مكتوب ومنطوق حول اجتهاد منشور باسم مسؤول حكومي في مركز حساس، وكان الاجتهاد في شأن فقهي معقد، أعيا حلوله كبار الفقهاء والمجتهدين عبر كل القرون الماضية. ليس لي هنا من حيلة سوى أن أعبّر عن رأيي الخاص، معتبرا أن الخوض في مثل هذه المفاضلات يقع خارج دائرة الأولويات الوطنية والتعايشية والتخطيط للمستقبل، وذلك كمواطن محب لوطنه بكل أطيافه، وكطبيب يؤدي مهنته الإنسانية بدون تحيز عقائدي أو مذهبي، وككاتب رأي يضع الأولوية الفكرية للتنوير. والله ولي التوفيق.