التقدم إلى الأمام ليس هدفا نهائيا، إنما استمرار التقدم إلى الأمام هو الهدف الرئيسي، لذلك فإن قوة الدفع الأولى على أهميتها ليست كافية لبلوغ الغاية ما لم تكن متبوعة بطاقة مستمرة تضمن الاستمرار. من هذا المنطلق فإنني أقدر جدا الحملات والمبادرات التي بدأت وتتزايد تحت عناوين مختلفة، وهدفها كما هو معلن دعم مصر في هذا الوقت الصعب. بدأت هذه المبادرات عقب نجاح ثورة الثلاثين من يونيو، وكان تفاعل المصريين معها دليلا حقيقيا على أن الروح المتشبثة بالحياة هي المنتصرة دائما داخل الجسد الوطني المصري، وأنه مهما تملكت منك الشكوك حول قدرة المصريين على الفعل في مرحلة ما فإن مفاجأة جديدة يخرج بها علينا المصري من كنزه، الذى لا ينتهى، ليثبت تلك الروح المتمردة المختفية خلف رقائق مما يبدو تسليما وخضوعا للأمر الواقع. هذا ثبت واضحا أثناء الثلاثين من يونيو وما بعدها وحتى الآن إلى حد مازال ملحوظا، وأتمنى أن يستمر.
ولكن، هل هذا وحده قادر على أن يعيد بناء مصر، هل التبرعات النقدية والعينية مهما عظمت قادرة على أن تعطي لمصر قوة الدفع المستمرة؟ أعتقد أن الإجابة جميعنا يعرفها. وأود أن أؤكد هنا تقديرى الكبير لفكرة دعم مصر، وتقديرى للقائمين على مثل هذه المبادرات وعلى تنفيذها، وأدعو الجميع إلى المشاركة فيها، كل حسب قدرته وقناعته، ولكني هنا أناقش أهمية البحث عن طرق لديها ضمانات الاستمرار. الدعوة لدعم مصر هي حالة تثير قدرا كبيرا من التقدير والاحترام، وهي دلالة على رغبة المصريين الحقيقية وتأييدهم للتغيير الحادث، لكنها دلالة وليست طريقا.
أعلم تماما أن دولا شقيقة بحق لمصر والمصريين، في مقدمتها دول الإمارات والسعودية والكويت، قد أبدت في وقت مبكر موقفها الداعم للمصريين وخيارهم، مؤكدة دعمها وتقديرها لموقف الجيش، الذى أثبت أن ولاءه الأول هو للشعب، هؤلاء الأشقاء أعلنوا بشكل قاطع ومنذ اللحظة الأولى دعمهم لخيار الشعب، وترجموا هذا الالتزام بتحرك سريع على الأرض، تَمَثّل أوله في ذلك التصريح الحماسى العملي ذي الدلالة عندما قال مسؤول إماراتي وقتها إن قوافل الطاقة التي تحتاجها مصر سوف تبدأ في أبوظبى وتنتهي في القاهرة، وهذا صحيح بمنطقه العملى، فمن الواضح أن نية وقرار هذه الدول وهؤلاء الأشقاء كانا هما الدعم الكامل، وجميعهم أعلنوا وقتها أنهم سوف يعملون على إقالة مصر من عثرتها الاقتصادية، وأنهم سوف يفعلون ذلك بوسائل تدعم الاقتصاد المصري ولا تُرهقه مستقبلا.
أيضا، ولكن، هل هذا كافٍ لإعادة بناء مصر من جديد، خاصة بعد أن عادت معدلات الدعم من الأشقاء إلى مستويات وأساليب معتدلة، ولم تعد كما كانت في المرحلة الأولى، بعض النظر الآن عن الأسباب؟ أظن أن الإجابة واضحة، لن تُبنى مصر إلا بالعودة مرة أخرى إلى دائرة الفعل، استعادة قيمة العمل لدى المصريين، ولكي يعود هذا فإن المطلوب تهيئة المناخ لهذه العودة، لذلك فإنني هنا أطالب القوى السياسية والشبابية والعمالية بتبنى دعوة العودة إلى دفع عجلة الحياة في مصر مرة أخرى، والتوقف عن استخدام الأوضاع المعيشية أو المطالب الفردية أو الفئوية مبررا لإيقاف العمل. هذا يتطلب في المقابل من الدولة أن تكون على قدر المسؤولية التي يتحملها النظام الآن، وهذا لن يتأتي إلا باعتماد العمل وفقا لدولة القانون، التى يكون فيها القانون هو السيد، وهو المحدد لسلوك الجماعات والأفراد ومؤسسات الدولة.
اقتصاديا، لن تكون هناك فرصة لإعادة ضخ دماء حقيقية في جسد الدولة المنهك سوى عن طريق اتباع قواعد قانونية واضحة ومطمئنة لكافة أطراف العملية الإنتاجية من عمال وإدارة ومستثمرين. لقد لاحظنا خلال الفترة الماضية تلك الحالة التى دفعت بمعظم المستثمرين، المصريين قبل العرب والأجانب، إلى الفرار من السوق المصرية، وذلك بسبب ذلك المناخ الطارد الذى سكن الأجواء، بالمطاردات القانونية عن غير أسس، السبيل الآن هو إعادة مناخ الاستقرار إلى أجواء الاستثمار. وهناك عدة خطوات أظنها جديرة بتحقيق ذلك الاستقرار نسبيا إن أُخذ بها. وأقصد هنا تلك المشروعات التي توقفت أو تعاني خطر التوقف لأسباب مرتبطة بعدم القدرة على اتخاذ القرارات في المرحلة الأخيرة أو لتعارض اتخاذ قرارات صحيحة لصالح هؤلاء المستثمرين مع مصالح أصحاب النفوذ.
مصر لن تتخذ مكانها الطبيعى بين الأمم التي تليق بها إلا إذا بدأ أبناؤها في العمل الجاد من أجل ذلك الهدف في ظل دولة قانون.