القاهرة – «الخليج»
تجسد حارة اليهود، في قلب القاهرة، تاريخ التسامح في ارض المحروسة، حيث تجمع بين أبناء الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلامية، واذا قمت بزيارتها ستجد بهذه المنطقة المعابد اليهودية تجاور المساجد، وأيضا شارعا بأكمله يطلق عليه «درب الكنيسة».
ظلت الحارة التي زارتها «الخليج» عبر مئات السنين معقلا لليهود، يكتنفها الكثير من الغموض والدهاء والشكوك.. تجد نفسك في مكان من الصعب أن تجد موضعا لقدمك فيه، الشوارع كلها تؤدي إلى بعضها، وعندما تنظر إلى أعلى ستجد البيوت تتقارب حتى لتكاد تتماس أو تكون وحدة واحدة.
تتبع حارة اليهود حاليا حي الجمالية، وهي ليست مجرد حارة صغيرة كما يعتقد البعض، بل تضم ما يقارب 350 شارعا صغيرا بعرض قد لا يتجاوز المتر الواحد وتمتد لمسافات كبيرة متداخلة، ويقال إنها كانت تضم نحو 13 معبدا لم يتبق منها سوى ثلاثة فقط، أشهرها معبد «موسى بن ميمون» الذي كان طبيبا وفيلسوفا شهيرا في بدايات القرن الثاني عشر الميلادي، وكان مقربا من السلطان صلاح الدين الأيوبي، ويقال إن بداخل المعبد سردابا يقود إلى الغرفة المقدسة، وفي طقوس اليهود من يدخل هذا السرداب يجب أن يكون حافي القدمين.
أما المعبد الثاني «بار يوحاي» فيقع بشارع الصقالبة، بينما الثالث في درب نصير وهو معبد «أبو حاييم كابوسي».
لم يتبق من اليهود الذين كانت تكتظ بهم الحارة حتى قيام ثورة 23 يوليو 1952م، سوى 80 يهوديا فقط، بينما كان عددهم يفوق 150 ألفا عام 1939.. وتقلصوا تماما نتيجة الهجرات المتتالية بعد حربي 1948 و1956، وتتولى كارمن وينشتاين رئيسة الطائفة اليهودية رعاية مصالح من تبقى من اليهود الذين ذابت هويتهم في المجتمع المصري ولا يكادون يعرفون شيئا عن إسرائيل.
لكن تحولت حارة اليهود اليوم إلى منطقة غارقة في الفوضى، تضيق أزقتها بتجار الأقمشة والملابس وسائقي سيارات النقل التي يقاتل أصحابها للمرور بها في حارات المنطقة الضيقة، التي لا يمكن أن تتسع لمرور سيارة وإنسان في وقت واحد، وهو ما يخلق عشرات المشاحنات يوميا بين السائقين والمارة، حول أحقية أي منهما في المرور أولا.
أنشئت حارة اليهود، كما تقول الروايات التاريخية، عام 1848، وتمركز الحرفيين اليهود فيها لاحقا سبب ربط اسمها بهم، وهناك الكثير من الاجتهادات التاريخية عن سبب تمركزهم في هذه المنطقة التي كانت تضم شياختين، إحداهما لليهود الربانيين والأخرى لليهود القرائين، فالبعض رأى أن السلطات المصرية هي من أمرت اليهود بالسكن والتمركز في هذه المنطقة لفصلهم عن بقية المجتمع المصري.
لكن هذا الزعم تنفيه المكانة المميزة التي حصل عليها الكثير من أعلام اليهود في مصر في القرن التاسع عشر، فضلا عن أن السكن في الحارة لم يكن قاصرا على اليهود وإنما كان هناك مئات السكان الآخرين من المسلمين والمسيحيين.
وهناك رواية أخرى ترجح تمركز اليهود في تلك المنطقة تماشيا مع ثقافة «الجيتو» التي تدفعهم للتجمع في أماكن بعيدة عن بقية المجتمع الذي يعيشون فيه، لكن هذا الأمر أيضا لا يبدو منطقيا في ظل انخراط الآلاف منهم في تفاصيل الحياة التجارية والفنية المصرية حتى ما قبل قيام ثورة يوليو 1952.
الرأي الأخير الأقرب للمنطق جاء في كتاب «يهود مصر من الازدهار إلى الشتات» للدكتور محمد أبو الغار، وذكر فيه أن اليهود أقبلوا على السكن في الحارة بكثافة لقربها من مصادر أكل العيش بالنسبة للحرفيين، حيث لم تكن تبعد عن حي الصاغة، معقل بائعي المجوهرات سوى أمتار قليلة، فضلا عن قربها من منطقة وسط البلد بالقاهرة، حيث المحال المتنوعة، بينها المحال الكبرى التي كانت ملكا لليهود قبل الثورة، مثل بنزايون وشيكوريل، والتي عمل فيها عدد كبير من سكان الحارة من اليهود.