الإنفاق على التعليم والبحث العلمي أصبح أهم بكثير من الصرف على المباني والطرق والجسور
في الألفية الثالثة، حيث يتسارع إيقاع العلم وتتجدد إفرازاته، ربما كل دقيقة، وتكاد التقنيات الأحدث تلتهم الأقدم وتزيحها من طريقها، لم يعد ممكنا لأحد أن يبقى ويقاوم عوامل الفناء والاندثار، من دون أن تكون لديه آليات هذا العصر وأدواته، وأولها وأهمها القدرة على الإبداع والابتكار.
ينطبق ذلك على الأفراد، كما ينطبق على الشركات، وأيضا على الدول والحكومات، ومثلما ذكر سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس الدولة في الإمارات ورئيس الوزراء وحاكم دبي، في مقال رائع له بعنوان «الدول بين الابتكار أو الاندثار»، فإن الدول أولى بأن ينطبق عليها هذا المفهوم، ولذلك فإنه عندما يطرح سموه السؤال: هل تشيخ الحكومات والدول وتتأخر مع مرور الزمن؟ هل تبدأ قوية وتكبر ثم يأتي من يزيحها من مراكزها فتتراجع ويقل نموها حتى تخرج من دائرة المنافسة؟ يجيب عنه بقوله: «لا أعتقد أن أحدا يمكن أن يختلف معي على الإجابة… نعم الحكومات تشيخ، وتشيخ معها دولها وشعوبها أيضا، وتتراجع أهميتها، ويقل تأثيرها، فتصبح خارج دائرة المنافسة والاعتبار، أو لنقل بعبارة أخرى خارج دائرة التاريخ»، لكن سموه لا يقطع الأمل في إمكان تجاوز هذه العقبات، مؤكدا أنه في استطاعتنا أن نبقى في سباق الحضارة الإنسانية وضمن تاريخ الأمم والشعوب التي تشكل العالم اليوم وتصوغ مستقبله، لكنه يرهن ذلك بتطبيق نظرية في الإدارة، مؤداها «أن نتعامل مع الحكومات كونها شركات»، بمعنى أن نوفر لها كل عوامل النجاح والتميز، كأنها شركات خاصة تحرص على إرضاء عملائها، وتضمن لهم كل عوامل الراحة والسعادة.
هذا الطرح لا يحلق في الخيال، أو يعتمد على نظريات مجردة يصعب تطبيقها، بل هو ألصق ما يكون بالواقع، بدليل أن حكومة دولة الإمارات حصلت في استطلاع أخير، لمؤسسة دولية متخصصة على المركز الأول باعتبارها «أكثر حكومات العالم كفاءة»… ونحسب أن الحاجة قد باتت ملحة لدى كل الدول العربية لاستلهام هذا النموذج، وإدراك أنه لم يعد ممكنا لأي دولة إحراز التقدم والتطور، واللحاق بالركب الحضاري للعالم، من دون تبني الأسس التي تقود لذلك، وفي مقدمتها فتح آفاق الإبداع والابتكار بأقصى ما نستطيع، ورفض كل ما يؤدي بنا إلى الجمود والتكلس والموات.. ولعل من المهم أن نعود هنا أيضا لما يطرحه خبراء الإدارة بشأن أيهما أجدى… الصرف بشكل مكثف على البنية التحتية من شوارع وطرقات وأنفاق وجسور وغيرها، أم الصرف على البنية التحتية غير المرئية من تغيير في الأنظمة وتطوير في التعليم والمهارات وبناء للتطبيقات وإجراء الأبحاث والدراسات ودعم الابتكارات؟ والحقيقة أننا نجد أنفسنا في النهاية أمام خيار واحد وليس عدة خيارات، ونعني به خيار الإنفاق بلا حدود أو قيود على تطوير التعليم والمهارات ودعم الابتكارات… بل إن دولا عديدة متقدمة لم تتردد في تأجيل الإنفاق على بنيتها التحتية المرئية، من طرق وجسور وأنفاق وغيرها، لكي توجه الجزء الأعظم من ميزانيتها إلى دعم التعليم والبحث العلمي، إيمانا منها بأن ذلك هو السبيل الأمثل لتحقيق أي نهضة منشودة.. لم تعتمد هذا الخيار فقط دول ناهضة حديثا كماليزيا وتايوان وسنغافورة وكوريا الجنوبية والبرازيل، بل اعتمدته أيضا دول عريقة في تقدمها، وربما كانت هي أسبق دول العالم إلى النهوض والتطور والحداثة وإنجاز النهضة الصناعية الكبرى التي شهدها العصر الحديث، ونعني بها بريطانيا على وجه التحديد.
ما نريد أن نخلص إليه هو أنه لكي تتجنب الدول والحكومات المصير الذي واجهته الشركات «المنقرضة»، فإن عليها أن تجدد شبابها وحيويتها، ولن يتحقق ذلك إلا بالعلم والمعرفة، وإطلاق كل كوامن الإبداع والابتكار، وفتح المجال أمام كل الطاقات الشابة المبدعة، لتسهم في تجديد المجتمع واستدامة حيويته، وإبعاد عوامل الفناء والانقراض عنه، وبعث الدماء الفوارة والقوية المتجددة في كل شرايينه.