منذ أن جرى اغتيال القاضي الخازندار، خلال سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، في حادث إرهابي مشهور، لم تعرف مصر اغتيال أحد من قضاتها، أو حتى التعرض لهم بسوء، فقد ظل المصريون يحتفظون لقضاتهم بقدر كبير من الإجلال والتوقير والهيبة، وينزلونهم دوما المنزلة التي يستحقونها، وينأون بهم عن أي صراعات سياسية أو حزبية أو حتى اجتماعية، حتى وقع ذلك الحادث الأثيم قبل أيام في مدينة العريش، عندما أقدم مجهولون على قتل ثلاثة من القضاة العاملين في المدينة، مصوبين هذه المرة على «قلب» مصر الذي يعرفون أنه سيكون أكثر إيلاما ووجعا لكل المصريين.
وعلى الرغم من فداحة الحادث، وما أوقعه بالفعل من ألم ووجيعة في قلوب المصريين، فإنه لم يكسر إرادتهم، أو يفت في عضدهم، أو يمنع إصرارهم على مواصلة تحديهم لهذا الإرهاب، ومواصلة المعركة معه، فهم يعرفون أنها معركة طويلة وصعبة، وسيكون لها ضحاياها، كما أكد ذلك مرارا الرئيس عبدالفتاح السيسي، خصوصا في «حديث الشهر» الأخير الذي خاطب من خلاله أبناء شعبه، ودعاهم إلى أن يكونوا جميعا ظهيرا لجيشهم وشرطتهم في هذه المعركة، لأنها تمثل مواجهة شاملة يشكل الأمن إحدى أذرعها، لكنها بحاجة أيضا إلى مواجهة مع الفكر المتطرف والمحبذ للعنف، وهو الدور المناط بعلماء الدين والكتاب والمفكرين والإعلاميين والنخبة المثقفة عموما.
ومهما طال أمد هذه المعركة، فإنها محسومة سلفا، ذلك أن أي إرهاب يظل غريب المنبت، هش الجذور، ولا يمكن له أن يثبت أو يرسخ في تربة الوطن، ويوما قريبا سيختفي هذا الإرهاب، ويفقد كل أنصاره، ويعود الجميع إلى الوسطية التي تميزت بها مصر طوال تاريخها، وعُرفت بها، بل وصدرتها إلى العالم، فكرا وثقافة وفنا وسلوكا، فبات المصريون يعرفون في كل مكان من هذا العالم بالاعتدال والرزانة ورجاحة العقل، وهو ما أتاح لهم أن يكونوا مبدعين في كل مجال، وأن يخرج منهم آلاف العلماء والأدباء والفنانين الذين ملأوا الدنيا علما وشعرا ورواية ومسرحا وفنا سينمائيا، أفادوا من خلاله شعوب الأمة العربية وأمتعوها بكل ما هو مبهج وجميل.
نحزن إذن لما أصاب مصر خلال الأيام الماضية، لكننا لا نخشى عليها، فنحن نعرفها جيدا، نعرف مصر الصابرة والمناضلة، مصر القوية التي لم تنهزم يوما أمام أعتى المحن وأقوى الشدائد، ولن تنهزم أبدا في مواجهة الإرهاب، بل ستقوم وتنهض، أشد قوة، وأصلب عودا، وأكثر قدرة على صناعة الحياة.