تتباهى المرشدة السياحية في فيينا وهي تدلنا على شقة في أحد المباني قائلة إن بيتهوڤن سكنها ذات يوم، أما في مدينة سالزبورغ فتغدو زيارة منزل موتسارت متعة حقيقية حين يجول الزائر في غرف المنزل وردهاته متأملا بعض ما تركه الموسيقي العظيم من نوتات بخط يده، وبعض آلاته ومقتنياته المحفوظة كسرٍّ مكنون. الأمر نفسه يتكرر في فلورنسا الإيطالية حيث متحفا مايكل آنجلو ورافائيل دافنشي، أو في براغ التشيخية حيث متحف فرانز كافكا. المشهد نفسه يتكرر في معظم العواصم والمدن الأوروبية، بل في معظم مدن العالم وعواصمه التي تحترم مبدعيها وتقيم على أسمائهم المتاحف والمعالم وتحفظ ذكراهم وإبداعاتهم، وتعرّف الأجيال المتعاقبة على ما قدموه للإنسانية من عطاءات نادرة ولُقيّات لا تُقدَّر بثمن.
لا نعرف إذا كانت المقارنة جائزة أم أنها ظالمة لطرفيها؟ وكم هو مؤلم أن نكون على ضفة والعالم برمته على ضفة أخرى، بلادنا نهب الحروب والخراب والقتل والقتال والتطرف والتخلف والاستبداد، فيما العالم برمته يواصل سيره الحثيث نحو الأمام. يقضي المبدعون في أوطاننا من دون أن يشعر بهم أحد، يمضون بصمت إلى مثواهم الأخير فيما البلاد غارقة في تذابحها وتَقاتُلِها، و «المحظوظ» منهم الذي يلتفت إليه الإعلام فتُخصص لرحيله صفحة في هذه الجريدة أو تلك، أو تُقدَّم حوله وعنه حلقة تلفزيونية هنا أو هناك وكان الله يُحِب «المحسنين»، هذا أصلا إذا نجوا في حياتهم من سجون الأنظمة أو من المنافي القسرية والطوعية، يُضاف إليها الآن ما يمكن أن يتعرضوا له من تنكيل على أيدي حركات التطرّف والتخلف والجهل.
باستثناء حالات نادرة مثل منزل أحمد شوقي في العاصمة المصرية القاهرة ومتحف جبران خليل جبران في مدينة بشري اللبنانية ومتحف محمود درويش في رام الله الفلسطينية وربما بعض حالات مماثلة قليلة في مدن عربية أخرى، تبدو الصورة قاتمة ومؤلمة حيث يمضي المبدعون جلّ حياتهم وهم يكتبون أدبا وشعرا وموسيقى ويقدِّمون إبداعات رائعة في المسرح والسينما والتلفزيون وفي الفن التشكيلي وسواه من فنون، ثم حين تحين الساعة لا أحد يلتفت إليهم اللهم إلا إذا سارعت هذه السلطة أو تلك لمنح هذا المبدع أو ذاك وساما لا يسمن ولا يغني من تكريم تضعه على وسادة فوق نعش المتوفى الذي لم ينتبه إليه أحد في حياته، أما إرثه «المادي» والمعنوي فيذهب أدراج الرياح والنسيان. ولنا عبرة في دارة أم كلثوم وكيف صارت في خبر كان وحلّ مكانها فندق، وحالها حال مئات المبدعين العرب ممن لا تحفظ أمانتهم ومقتنياتهم وأثارهم بفعل تجاهل السلطات المعنية أو جهلها، وجشع بعض الورثة وغبائهم.
نكتب عن ضرورة تكريم المبدعين وندعو إلى صون ذكراهم وإبداعاتهم في زمن الحروب والقتل والقتال؟! نعم، نفعل. لهذا علاقة بذاك، فَلَو كنّا أمة تحترم عقولها ومبدعيها وتعلّم صغارها احترام كبارها وتربيهم، في البيوت والمدارس، على تذوق الآداب والفنون وتقديرها، لا من باب الترف بل من منطلق أنها تساهم إسهاما أكيدا في نهضة الأمم وتقدّم الشعوب (طبعا إلى جانب أمور أخرى مثل البحث العلمي والتنمية البشرية وسواها) لما كنّا اليوم غارقين في بحار الدماء وفي معمعات الحروب، ولكانت بلادنا تسير إلى جانب بلاد الدنيا نحو مستقبل أفضل وأيام لا يعلو فيها هدير الطائرات ودوي المدافع وصليل الصوارم، ولَكنا على الأقل نحيا حياة عادية ونواجه مشاكل حياة مثلما تفعل معظم شعوب الأرض، لكن طالما بقينا أمة لا تحترم عقلها، بل تغتاله كل يوم بالقتل والقمع والتكفير والإقصاء لن تُكتَب لنا نجاة مما نحن فيه من موت وخراب، واحترام العقل يبدأ بالالتفات إلى أصحابه من مبدعين مفكرين وعلماء وأدباء وفنانين والحرص على إبداعاتهم التي لا يتفتّح عقل أو يتطور في معزل عنها. كلُّ ما عدا ذلك نكران وإنكار.