يتبوأ جلال الدين المولوي الرومي منزلة رفيعة في الأدب الإنساني عامة والأدبين الإسلامي والفارسي خاصة، حيث بدأت شاعريته في الثلاثينات من عمره، وأخذ ينشد الشعر ارتجالا دون أن يدرس قواعده وأصوله حتى فاق إنتاجه الأدبي بقية اقرانه من أقطاب الشعر الفارسي.
لقد أبصر الرومي (1207 – 1273م) العالم برؤية جديدة، وكان من المبدعين الذين حولوا وجهة الشعر، الذي كان مسخرا لخدمة أهل البلاد والملوك، الى شعر إنساني يهتم بالفئات الشعبية ويساهم في دور فعال في بناء المجتمع، تركت اشعاره ومؤلفاته، التي كتبت بلغته الأم الفارسية، تأثيرا واسعا في العالم الإسلامي خاصة على الثقافات الفارسية والأردية والبنغالية والتركية، وفي العصر الحديث ترجمت بعض أعماله إلى كثير من لغات العالم ولقت صدى واسعا جدا.
يقول عنه الأديب والشاعر الكويتي عبدالعزيز سعود البابطين: ان قصائد وغزليات الرومي مهيأة لإقامة منهج عالمي مبني على توفير الخير والفلاح للإنسان انطلاقا من التسامح والتفاني مما يجعل قراءته ضرورة ملحة لكل مثقف يطمح لحوار الحضارات وتمازج الثقافات وتعايش الأديان.
وقد حددت منظمة الأمم المتحدة يوم الثلاثين من سبتمبر يوما عالميا للاحتفال بهذا الشاعر الإنساني وأبياته المستلهمة من المصحف الشريف والأحاديث النبوية، ودورها في تحقيق التعايش السلمي بين الأمم.
كان جلال الدين مسلما مؤمنا بتعاليم الاسلام السمحة، لكنه استطاع جذب اشخاص من ديانات وملل اخرى، وذلك بسبب تفكيره المرن المتسامح، فطريقته تشجع التساهل اللامتناهي مع كل المعتقدات والأفكار، كما كان يحث على الخير والإحسان وأدراك الأمور عن طريق المحبة، وبالنسبة إليه وإلى اتباعه، فإن كل الديانات خيرة وحقيقية بمفاهيمها، لذلك كانوا يعاملون المسلمين والمسيحيين واليهود معاملة سواسية.
وحول أدب هذا الشاعر يقول بان كي مون الأمين العام للأمم المتحدة: ان العالم اليوم بحاجة ماسة الى اشاعة وتبليغ رؤى الرومي أكثر من أي وقت مضى، حيث ان السلام والاستقرار وحوار الحضارات مفاهيم مغروسة في قصائد الرومي.
أما البروفيسور فيكتور الكك رئيس قسم الدراسات الشرقية في جامعة القديس يوسف في بيروت فيقول عن مولانا الرومي: يصح في مولانا – جلال الدين البلخي الرومي في ايامنا، ما قيل في المتنبي، قبل ألف عام، انه «مالئ الدنيا وشاغل الناس»! فقد ظهرت، اخيرا، في اوروبا، ولا سيما في فرنسا ترجمات لمختارات من آثاره، ودراسات حول تراثه العرفاني الغزير والمميز بين ميراث أهل السير، والغريب ان هذه الطبعات نفذت في الأيام الأولى من انتشارها.. وهذا دليل على اقبال القراء عليها، ارتواء بما تتضمنه من روحانية تريح إنسان ايامنا المحيط، وقد حجبت عنه علائق الدنيا آفاق الأمل في عالمه والتوق إلى عالم بهي تبتدعه الروح وتنقله إليه.
أما الأمر في الولايات المتحدة الأميركية فأشد وأدهى في طلب الأجيال المختلفة آثار «مولانا»، أو «الرومي» كما يؤثرون تسميته في بلاد العم سام، فقد غدت ترجمة الشاعر الأميركي «كولمن باركس – Coleman Barks لمختارات من تراثه الفذ تحت عنوان: The Essential Rumi أي زبدة الرومي أو خلاصة الرومي، شبه مفقودة من الأسواق واندرجت في طليعة لائحة الكتب الأكثر مبيعا في الولايات المتحدة Bestseller، ولو كان الأمر يتعلق بقصة غرام أو حادثة فضيحة سياسية أو حدث علمي عالمي لكان له ما يبرره، الا ان الكتاب هو خلاصة أشعار عرفانية كتبها المولوي بلغته الفارسية، تعتبر عن اسمى وأرقى ما بلغته شخصية إنسانية في تساميها نحو خالقها، وفي كسب القيم المعنوية والروحية التي تُهيئ الإنسان السالك في طريق الحق الى بلوغ مرتبة الإنسان الكامل.
ما مغزى هذه «الظاهرة» الفريدة؟ يضيف البروفيسور فيكتور الكك الذي أمضى نصف قرن في دراسة الرومي، لا يحتاج الى تعليل ذلك إلى أعمال معمق للفكر ببساطة، وصلت البشرية في فتوحاتها العلمية والتكنولوجية الى نتائج باهرة سخرت الأرض والفضاء، الى حدود، وجعلت من العالم كما يقال في أيامنا، قرية كونية، ويسرت للإنسان أسبابا ووسائل مدهشة لراحته وترفه، الا انها عجزت عن ارواء روحه التي تنهد الى ما وراء المادة والتي لم يسبر الإنسان أبعادها وكنوزها فيطمئن إليها ويخلد الى سكينتها التي تشيع فيه السعادة، وهذا هو ما دعا اليه مولانا جلال الدين من خلال غزلياته العرفانية المشتعلة وجدا وشوقا وعشقا يفتح به أبواب السماء على مصاريعها!
لقد ضل الإنسان طرقه إذ حسب ان السعادة تقوم على السيطرة على ثروات الأرض وتسخيرها لمصلحته وتأمين العيش الرفيه لبني جنسه، مهملا الشعلة الخانقة التي وهبه الله والتي ينبغي له ان يمدها بزيت العرفان من زيتونة الروح الذي يُضرم فيها نار الشوق، فيرى ما لا تراه عين، ويسمع ما لا تسمعه أذن، ويشهد ما لا يخطر ببال بشر! تلك الرؤى والكنوز مخبوءة في داخل كل منا، فما علينا سوى ايجاد الوسيلة لاكتشافها بالسير على خطى مولانا أو حافظ الشيرازي أو سواهم ممن خرقوا أقطار المكان واختصروا مسيرة الزمان.
آن لنا، بعد ما شهده أسلافنا وشهدناه من حرب ومآس وتحكم المادة بنا وتضاؤل انسانيتنا، ان نعود الى الأدب الذي يُهذب النفس، ويُزيل عنها الصدأ، ويرتفع بنا الى استعادة قيمنا المعنوية والروحية فنعود، بذلك الى الفردوس المفقود باستعادة انسانيتنا، وليس اسهل من ذلك علينا، فعندنا من تراث ما يربو على حاجتنا: مفكرون وشعراء وقديسون وأولياء، كشفوا لنا سر العنقاء، ووضعوا بين أيدينا مرآة الاسكندر، فهلا كنا من القوم العاقلين؟ وهلا عرفنا ان وراء العقل إذا ما صُقلت مرآته تجلت فيها اسرار الكون وتجاوزنا به سدرة المنتهى الى المطلق؟ ويحتفل الشعب الإيراني كما غيره العديد من شعوب العالم بالذكرى السنوية لميلاد هذا الشاعر الإنساني في الثلاثين من سبتمبر من كل عام.
من هذا المنطق نرى ضرورة العودة الى تراثنا العربي والإسلامي وما فيه من قيم وكنوز يقبل عليها سوانا أملا في عالم أفضل نحن غائبون عنها.
د. سمير أرشدي