في تاريخ العالم كله لن تجد، من بين السياسيين ورجال الدولة، إلا شخصيات قلائل حظيت بما يشبه الإجماع على محبتها واحترامها، وقدرتها على أن تحقق قدرا كبيرا من التوافق الوطني حولها.
وقد كان الراحل الكبير جاسم الخرافي من بين هذه الشخصيات، فقد استطاع ـ رحمه الله ـ أن يكسب ثقة الجميع واحترامهم، سواء كانوا من أنصاره ومؤيديه، أو من معارضيه والمختلفين معه في آرائه ومواقفه، لأن الكل كان على يقين بأنه ينطلق من أساس واحد هو المصلحة الوطنية، ويتجه إلى غاية واحدة هي خدمة الكويت وأهلها… ولعل أدق وأصدق ما قيل في هذا الشأن هو ما ذكره أحد أعضاء مجلس الأمة عن فقيد الكويت، عندما قال عنه: «عرفته واختلفت معه سياسيا وبرغم الاختلاف فإنه يفرض عليك احترامه، اقتربنا منه سياسيا وكلما اقتربت منه تعرف أصالة هذا الرجل، فقد كان صمام أمان للبلد، وسنفتقد هذا الصمام في مثل هذه الظروف، حتى خصومه السياسيون لا يملكون إلا أن يحترموه».
هذه الكلمات القليلة تلخص الكثير جدا في ملامح شخصية فقيد الكويت الكبير، وهي الملامح التي لم تغير أو تتبدل في كل المواقع التي شغلها، سواء كان وزيرا أو نائبا أو رئيس برلمان، فقد كان همه الأول والأكبر هو مصلحة الوطن… لم يكن يعنيه في شيء بريق السياسة وأضواء الإعلام، ولم يكن يوما باحثا عن مجد شخصي أو فئوي… ولذلك فقد التقت عنده كل التيارات والقوى السياسية، ووجدت فيه الحكمة والرأي السديد ونبل الموقف ونقاء الضمير، وهذا ما ساعده أيضا على أن يقود المجلس لمعالجة أدق وأعقد أزمة دستورية واجهتها الكويت في تاريخها الحديث، وتحديدا عقب وفاة الأمير الراحل المغفور له الشيخ جابر الأحمد في الخامس عشر من يناير 2006، حيث مرت الكويت بأزمة كبيرة نتيجة خلو مسند الإمارة، وبلغ الأمر حد الأزمة، ووسط هذه الإشكالية غير المسبوقة في تاريخ الكويت، والتي أثارت هواجس كبيرة لدى المواطنين، تحرك رجال لهم ثقلهم الخاص من داخل الأسرة الحاكمة وخارجها، وكان من بين هؤلاء الرجال جاسم الخرافي رئيس مجلس الامة، الذي كان يؤكد خلال تلك الفترة أن الأمر يتطلب التعامل بالحكمة والعقلانية، والالتزام بالقواعد والاجراءات الدستورية التي لا يمكن معالجة هذه القضية من دونها. وقام بجهود كبيرة، وأجرى مشاورات ولقاءات عديدة شملت جميع الأطراف، بمن فيهم الأمير الوالد الشيخ سعد العبدالله رحمه الله، وسمو رئيس مجلس الوزراء آنذاك الشيخ صباح الاحمد، وأعضاء مجلس الامة، واستمع بشكل جيد لصوت المواطنين وتعرف على آرائهم ورغباتهم. ومنذ بداية الازمة وحتى نهايتها أعلن الرئيس جاسم الخرافي تمسكه بالدستور، وثقته بالأسرة الحاكمة على تخطي تلك الظروف، ولم يفقد الأمل في ذلك، وكان التوافق البرلماني من أهم العوامل التي ساعدت على إنهاء القضية من دون حدوث اي مضاعفات أو آثار تضر بمصالح الوطن والمواطنين، وساهم في انتقال السلطة بشكل أذهل العالم، وأثار إعجابه واحترامه أيضا، وهو ما يحسب لرجال الكويت المخلصين الذين لم تكن لهم مصلحة سوى وحدة الكويت، وحماية استقرارها.
ومن المؤكد أن تاريخ الحياة البرلمانية سيتوقف طويلا عند جاسم الخرافي، وسيسطر بأحرف من نور الفترات التي ترأس فيها مجلس الأمة، وقدرته الفذة على تحقيق التوازن المنشود في الحياة البرلمانية بين الجانبين الرقابي والتشريعي، بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، وحنكته أيضا في الجمع بين الصرامة من ناحية، والمرونة من ناحية أخرى، في إدارة الجلسات، بحيث لا يتيح لأحد تخريبها أو اختطافها وتجييرها لأغراض حزبية أو فئوية.
كثيرون هم السياسيون، ولكن قلة قليلة منهم هي التي تشكل نماذج يحتذى بها، وتصلح لأن تكون أسوة لكل الأجيال المتعاقبة، وقد كان جاسم الخرافي أحد هذه النماذج الرائدة والساطعة… رحمه الله رحمة واسعة، وعوض الكويت عنه خيرا.