مع عودة الأيام المباركة لشهر رمضان الفضيل، يستعيد المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها، كثيرا من المعاني والقيم التي تذكّر بها دوما نفحات هذا الشهر .. وأول ما يخطر على البال أن عبادة الصوم ارتبطت – كغيرها من العبادات في الإسلام – بالغاية الأسمى والأجل، وهي تقوى الله سبحانه وتعالى وخشيته، وهو ما تضمنته الآية الكريمة التي نزلت بفرض الصوم، وذلك في قوله تعالى «يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون».
هذه الغاية السامية والنبيلة تفرض على الفرد المسلم، وعلى المجتمع المسلم أيضا، استحقاقات كثيرة، حتى يتحقق معنى التقوى ظاهرا وباطنا، ولكي نبلغ الجوهر واللباب من وراء الفرائض التي نؤديها، فشريعة الإسلام العظيمة تعلمنا أن الصلاة ليست مجرد حركات تؤدى، وإنما هي سلم المسلم لبلوغ الهدف الأجل الذي نادت به الآيات القرآنية «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر»، وكذلك سائر العبادات كالزكاة والحج… والقصد ذاته يسري بالطبع على فريضة الصيام التي نبهنا القرآن الكريم والسنة المطهرة إلى مقاصدها وغاياتها، وأنها لا تبتغي التشديد على المرء بالجوع والعطش، وكما يقول الحديث الشريف «من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
والمعنى المراد من وراء ذلك أن على المسلم أن يتجرد من كل الشوائب التي تعوقه عن تمام الإيمان وكمال الإحسان… وإذا كان الحديث قد ذكر تحديدا «قول الزور»، فإن بإمكان الإنسان أن يمد الخط إلى نهايته، ويرى في الكذب والغش والخداع والفتنة والوقيعة بين الناس، جرائم لا تقل إثما وخطرا عن قول الزور، بالقدر ذاته أيضا الإهمال في العمل وخيانة الأمانة، ونشر الشائعات المغرضة التي تؤدي في النهاية إلى الهدم، والتأثير سلبا في أمن المجتمع واستقراره.
الغاية الأسمى إذن هي إقامة مجتمع قوي متماسك متضامن، ينبذ الفرقة والخلاف والفتنة، ويبني علاقاته على المودة والتعاون والتكاتف والإخاء، مجتمع يعرف أسباب قوته ومنعته فيتمسك بها ويستكثر منها، ويدرك مكامن ضعفه وهشاشته فيجتنبها ويستبعدها.
ولعلنا في الكويت ـ بوجه خاص ـ نفيد من هذه الدروس الملهمة التي يرسلها إلينا شهر رمضان المبارك، فقد مرت بنا أزمات عاتية وشديدة، لكننا اجتزناها بسلام وأمان، لأننا كنا متمسكين بالكثير من القيم الإيجابية والنبيلة التي أشرنا إليها، قيم الوحدة والتكاتف والتضامن… ونحسب أنه ليس هناك أشد ولا أعتى من أزمة الغزو الغادر، ومحاولة قوة احتلال محو اسم الكويت من الوجود… صحيح أن العالم كله وقف معنا وساندنا، لكن هل كان ليفعل ذلك لو كنا متفرقين مشرذمين؟!
نعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال بسيطة وماثلة أمامنا هذه الأيام بقوة ووضوح، فها هي دول عديدة في منطقتنا واجهت مخاطر مماثلة بشكل أو بآخر – وإن اختلفت بالطبع أسبابها، وتباينت ملامحها وتفاعلاتها – لكنها عجزت عن اجتيازها وتخطيها، بل غرقت في لجتها حتى الأذقان، والسبب أنها تفرقت «أيدي سبأ»، وانقسمت أحزابا وفرقا، وباتت تتقاتل في ما بينها، ناسية أو متناسية الهم الوطني العام، الذي يفترض أنها تأسست من أجله، حتى صار الخراب والدمار والموت والضياع السمة الغالبة في تلك الدول، ولا أحد يدري متى تخرج من مستنقعها الآسن ذاك.
لقد أسبغ الله نعمه علينا في الكويت ظاهرة وباطنة، ونحسب أن نعمة الأمن والاستقرار هي «ذروة سنام» هذه النعم… وحري بنا أن نستشعر من هذا الشهر المبارك كل القيم والمثل التي تجعلنا قادرين على حراسة هذه النعمة، واستدامة فضل الله علينا في الأمن والأمان، ولن يكون ذلك إلا بالعودة إلى ما يحث عليه القرآن الكريم الذي تنزل على نبينا المصطفى ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ليلة مباركة كإحدى الليالي التي نعيشها الآن، وإلى روح المودة والإخاء، وأن يحب المرء لأخيه، كما يحب لنفسه. وكل عام وأنتم بخير.