سألني أحد الأصدقاء: هل لو كان للرئيس السيسي حزب سياسي كانت الانتخابات باردة فاقدة للحماس كالتي جرت قبل يومين؟ قلت سؤالك وجيه للغاية، ولكني بادرته بسؤال مضاد: لو أن الرجل كوّن حزبا سياسيا وشارك في الانتخابات فهل ستكون لدينا تجربة تعددية حزبية كالتي نتحدث عنها كثيرا ونطمح في يوم ما أن نصل إليها؟
السؤالان افتراضيان ولكنهما يطرحان قضية مهمة، وهي ضرورة أن يكون للرئيس ظهير سياسي وحزبي واضح ومحدد. وأتصور أن الزمن لن يطول كثيرا حتى نجد مثل هذا الحزب موجودا على أرض الواقع. باختصار المسألة هي مسألة وقت لا أكثر ولا أقل. ولا أدعي أني أعرف الغيب أو أن لي صلات قوية بدوائر صنع القرار، ولكن أدعي أن أية قراءة واعية للانتخابات البرلمانية في مرحلتها الأولى وكذلك في مرحلتها الثانية، التي لن تختلف كثيرا عما جرى في المرحلة الأولى، تؤكد بكل قوة أن الحياة الحزبية بحاجة إلى دماء مؤسسية جديدة، وأن الخريطة الحزبية الراهنة بأحزابها القديمة والجديدة على السواء ليست قادرة على تقديم حزب حقيقي له ظهير اجتماعي وشعبي يقود هذه الأمة التي تشابهت عليها الأمور، وأدخلت الناخبين كما رأينا في مواقف كثير من البسطاء في دوامة بائسة حول من ينتخبون وهم لا يعرفون أحدا من المرشحين لاسيما الجدد منهم، في وقت يرفضون فيه الوجوه القديمة وتلك المحسوبة على التيار الديني معا. في الوقت نفسه كان الناخبون الذين أدلوا بأصواتهم قد اختاروا بيسر شديد إحدى القوائم المتنافسة. وهنا تبدو المفارقة الكبرى، فالناخبون فضلوا القائمة وهم ليسوا بالضرورة عارفين بكل أعضائها، فقط يعرفون الخطوط العامة التي تميز هذه القائمة عن تلك، في حين ترددوا وارتبكوا عند اختيار المرشحين الأفراد. فضلا عن أن اختيار قائمة في لحظة التصويت هو أكثر يُسرا من اختيار مرشحَيْن أو ثلاثة من قائمة طويلة من الأسماء والرموز التي قد لا تعني شيئا بالنسبة للناخب.
الأمر على هذا النحو يعني ببساطة أن الناخبين باتوا أو اقتربوا أن يكونوا مؤهلين للتمييز بين أطر فكرية وسياسية تقودها وتعبر عنها شخصيات يثقون فيها ويحترمون تاريخها وعطاءها. وتلك بدورها خطوة إيجابية بالمعنى التاريخي وتصب في تطوير الحياة الحزبية بوجه عام إذا ما أحسنت النخبة السياسية توظيفها وفهم معانيها ودلالاتها. وإذا أطلقنا العنان لأنفسنا قليلا فقد نصل إلى استنتاج بأن القائمة الفائزة بأعلى النسب قد تشكل خطوة نحو التفكير في تحويل نفسها إلى حزب سياسي، فإذا كانت القائمة بفكرها ورموزها فازت بفعل دعم وتأييد من الناخبين، فمن اليسير أن تتحول إلى مؤسسة حزبية تناضل وتنافس من أجل تحويل دعم الناخبين إلى سياسات فعلية من خلال البرلمان ومن خلال العمل الحكومي معا.
نحن جميعا متفقون على أن هناك فراغا حزبيا تعيشه مصر. وهذا الأمر يُمثل خطرا كبيرا على مستقبل التحول الديمقراطي، إذ لا ديمقراطية بدون أحزاب قوية، ولا ديمقراطية بدون مشاركة الناخبين مشاركة إيجابية من خلال الأحزاب. وبالرغم من كثرة الأحزاب فقد تبين للجميع أن قدرتها على تعبئة الناخبين للمشاركة في التصويت هي قدرة محدودة للغاية. وللقارئ الحق هنا أن يسأل ما علاقة ما سبق بضرورة أن يكون للرئيس حزب سياسي؟. وهنا نفرق بين مستويين؛ الأول أن يتشكل حزب سياسي من خلال القائمة الفائزة بالصورة التي سبق الإشارة إليها، وأن يكون من بين مبادئ الحزب الجديد أن يدعم سياسات الرئيس وأن يشاركه مسئولية عملية التحول السياسي والاقتصادي في البلاد، وأن يقبل الرئيس ذلك ويرى في كوادره معينا له يستفيد بهم في المستويات القيادية المختلفة.
أما المستوى الثاني فهو أن يبادر الرئيس نفسه بالإعلان عن تشكيل حزب ويعلن عن مبادئه ويفتح الباب أمام من يريد الانضمام إلى هذا الكيان الحزبي الجديد. وهذه الحالة تذكرنا قطعا بما فعله الرئيس أنور السادات حين أعلن عن تشكيل الحزب الوطني، وحينها تركت شخصيات وكوادر حزبية كانت منتمية إلى أحزاب أخرى وفضلت عضوية الحزب الذي يرأسه الرئيس. وباقي قصة الحزب الوطني معروفة للجميع. وأظن، وبعض الظن إثم وبعضه الآخر ليس كذلك، أن هذه الخبرة موجودة في إدراك الرئيس السيسي ولا يريد أن يكررها بأي شكل كان، وأنه لو فعل ذلك في فترة مبكرة لقيل إن الرجل يريد أن يحتكر كل شيء، وأنه قضى بذلك على الحياة الحزبية تماما، ويمهد لحياة شمولية أو سلطوية يقبع على قمتها، ولم يكن أحد سيصدق أن سلوكيات الحزب الوطني قد انتهت تماما لاسيما ما يتعلق بانحياز الحكومة وأجهزة الإدارة المحلية ومؤسسات الدولة المختلفة للحزب الذي يرأسه الرئيس، وهو ما رأينا عكسه تماما في المرحلة الأولى للانتخابات البرلمانية. ناهيك أن المعارضة رغم اختلاف مصادرها ومرجعياتها كانت ستجدها فرصة للتحرك الجماعي ضد الرئيس وحزبه، وتدخل البلاد في دوامة النهاية قبل أن تبدأ حركة البناء المطلوبة والمنتظرة من كل مصري.
وربما نضيف أيضا أن هناك من قدم رأيا للرئيس السيسي بأن الأفضل هو أن يكون المجتمع كله أو غالبيته الساحقة بأحزابه ومؤسساته الطوعية بمثابة الظهير السياسي والمجتمعي له، وبذلك يتجاوز فكرة الحزب مهما كان قويا وطيعا. وهي النصيحة أو الرأي الذي ثبت أنه غير واقعي، لأن الحياة السياسية في مصر متنوعة التيارات والأفكار ولا تقبل إطلاقا أن تنحصر في قالب سياسي واحد مهما كانت شعبية قائده وزعيمه.
هذه التحفظات الجوهرية التي ربما دفعت الرئيس السيسي إلى عدم المبادرة بتشكيل حزب قد يعيد ذكريات الحزب الوطني المنحل ويضر بالتطور السياسي لمصر، يمكن القول بأن دورها قد انتهى، فالانتخابات جرت بعيدا عن تدخلات الحكومة ولن يكون بمقدور أي حكومة تالية أن تناهض هذا المكسب الديمقراطي المهم، وثانيا أن فكرة أن حزب الرئيس في مرحلة سابقة قد يضر بالحياة الحزبية أصبحت غير عملية، فالأحزاب جميعها أعطيت الفرصة لكي تخرج إلى النور وأن تتفاعل كل حسب قدرته مع المجتمع بدون قيود، ولا يمكن القول إن ضعف هذه الأحزاب راجع إلى حزب قوي يرأسه الرئيس. وفي ضوء هذه المعطيات أتصور أن خيار تحول قائمة حصلت على دعم شعبي مشهود إلى نواة حزب يدعم الرئيس دون أن يرأسه الرئيس يبدو خيارا عمليا وطبيعيا وتحتاجه مصر بشدة.