• نوفمبر 23, 2024 - 8:22 صباحًا

الديموقراطية التوافقية

 

 

درجت الكتب والأبحاث والدراسات المعنية بنظم الحكم على القول دائما بأن الديمقراطية شر لا بُد منه، بل أردفت دراسات أكثر حداثة بأن أسلوب الانتخابات ليس بالضرورة هو الأفضل في الاختيار لمجلس برلماني أو حتى محلي، حيث وعي هؤلاء وأولئك العوامل المؤثرة في العملية الانتخابية بدءا من استخدام «رأس المال» مرورا بتوظيف «العقيدة الدينية» وصولا إلى استخدام «العصبية القبلية» أو «العائلية» التي قد تصل إلى حد «البلطجة»، ولكن هؤلاء الباحثين عادوا يتساءلون إذا كان الأمر كذلك فما هو يا ترى البديل الذي يمكن أن نتخذه معيارا جديدا للديمقراطية بمدلولها الحديث، خصوصا أن هناك دولاـ منها «مصر»ـ تتمتع برأي عام قوى رغم ضعف مؤسساتها الديمقراطية، وتخلف دورها على امتداد العقود الأخيرة! فإذا كان الأصل في الديمقراطية أنها تعبير عن «الرأي العام» وترجمة رقمية للتيار الغالب تجاه قضية معينة أو شخصية بذاتها فإن قياسات الرأي العام الدقيقة والأمينة يمكن أن تكون مؤشرا استرشاديا يُعتد به، وهنا تعن لنا الملاحظات التالية:
أولا: إن الديمقراطية هي قضية وعي سياسي يرتبط بمستوى التعليم ونسبة الأمية، فالجهل بكل درجاته يؤثر سلبا على مفهوم المشاركة السياسية والأسلوب الذي تقرر به الأغلبية المسار الوطني من أجل المصلحة العليا للبلاد، ومن عجب أن دولة كبرى مثل «الهند» تتمتع حاليا بنظام ديمقراطي ضخم رغم تفشي الأمية ووجود جيوب للتخلف أحيانا مع تراكم الميراث الثقافي الثقيل الذي لا يخلو من خرافة، بل قد يعادي الحداثة أيضا، ولكن وعي المواطن الهندي قد تجاوز مستواه التعليمي، وأصبح وفقا لـ«نظرية الضرورة» تعبيرا عن إحساسه الغريزي بإمكانية تحقيق مصلحته من خلال تحقيق مصلحة المجتمع.
ثانيا: إن الفقر والعوز والحاجة هي عناصر تنال من قيمة الديمقراطية وتهبط بها إلى مستوى «الرشاوى» الانتخابية واستخدام المال السياسي وسيلة للتأثير على أصوات الناخبين والعجز عن التعبير الحر الذي يسمح بوجود إرادة حرة، ولقد قالوا دائما إن حرية «تذكرة الانتخاب» ترتبط بـ«رغيف الخبز» وقد لا نستطيع أن نلوم بشريا فقيرا يقبل منحة انتخابية في مقابل صوته، فالمحتاج غالبا هو معدوم الإرادة، ولا حرية سياسية دون حد أدنى من الإشباع الاقتصادي، والفقر في بلدنا قنبلة موقوتة لا نتجاهل تأثيرها ولا نقلل من خطرها.
ثالثا: إن الحضارات القديمة والثقافات التي تضرب بجذورها في الأرض التي ارتبطت بها وخرجت منها منذ فجر التاريخ متمثلة في مجموعة من القيم والتقاليد مع تراكم التراث الإنساني هي ذات تأثير بالضرورة على السلوك الديمقراطي لأنها تجعل شعوبها عصية على التحول نحو الديمقراطية الحقيقية؛ إذ إن تلك الشعوب تبحث في تاريخها وتنقب في تراثها وترفض الديمقراطية الغربية الوافدة إليها وتراها صناعة أجنبية لا تتواءم مع ماضيها، ولا تعبر عن حاضرها وقد لا تثق أيضا بأنها المستقبل المنتظر، كذلك تراها جماعات في تلك المجتمعات القديمة على أنها مجرد وسيلة ظاهرية لاقتناص السلطة دون إيمان حقيقي بأن الأمة هي مصدر السلطات، وأن تداولها يؤدي إلى دوران النخب الحاكمة وهي معطيات ديمقراطية حديثة؛ إذ تبدو لهم المشاركة السياسية بمفهومها الغربي وكأنها مجرد سلم يصعد عليه من يجيد التسلق، فإذا وصل إلى مراكز الحكم قبع فيها، وتمسك بها، فلا هو ينزل ولا غيره يصعد.
رابعا: إن أخطر المؤثرات في العملية الديمقراطية هو ذلك المرتبط بالعقيدة الدينية، حيث يلعب الدين دورا فاعلا في توجهات المصوتين ويعتبر معيارا لدى السواد الأعظم من المسلمين على سبيل المثال لاختيار نائب الشعب وفقا لمعيار ديني قد لا يتفق مع روح العصر ولا يعبر عن مفهوم الديمقراطية الغربية، ويكون من نتائج ذلك شيوع حالات «التصويت الطائفي» بسبب ضعف الأحزاب السياسية واللجوء إلى المعيار الديني بديلا للمعيار السياسي عند الاختيار.
ولقد عانت «مصر» من ذلك في العقود الأخيرة بتأثير جماعات سياسية وظفت الدين لخدمة أهدافها بينما كنا ذات يوم في «الفترة الليبرالية» 1922- 1952 شيئا آخر حتى إن «مكرم عبيد باشا» المسيحي كان يكتسح «ياسين أحمد باشا» نقيب الأشراف في «مديرية قنا» لأن الناخب كان يعطي صوته لسكرتير عام حزب الأغلبية (الوفد) ولا يعطيه لمرشح من أحزاب الأقلية مسقطا تماما العامل الديني في اختياره، وهو أمر تغير بعد ذلك حتى أصبح المسيحي المصري لا يدخل «البرلمان» في الغالب إلا معينا من رئيس الدولة إلى أن جاءت الانتخابات الحالية التي تنصف لأول مرة قطاعات مهضومة الحق في التمثيل النيابي مثل المرأة والأقباط وذوي الاحتياجات الخاصة والمقيمين في الخارج.
خامسا: إنني أبشر بطرح جديد بدأ يظهر في أدبيات العلوم السياسية، ولو على استحياء، حيث بدأت أبحاث جديدة ودراسات جريئة ترى الديمقراطية الغربية بشكلها الحالي أصبحت لا تفرز بالضرورة من يعبرون عن الرأي العام ويمثلون تيارا له الغلبة على المسرح السياسي، بل إن الانتقادات تجاه الديمقراطية الغربية قد وصلت إلى حد اعتبارها غير صالحة لتمثيل الشعوب واختيار الأصلح حتى في أكثر الدول رقيا وأعلاها مكانة، ويتحدث هؤلاء المجددون عن مفهوم حديث لها يدور حول معنى «الديمقراطية التوافقية» أي تلك التي تستلهم تأثير الرأي العام جنبا إلى جنب مع إجراءات التصويت الانتخابي بحيث تقدم للناخب مؤشرات قياسية لدرجة توافق جمهور الناس وعموم المواطنين تجاه شخص أو حزب أو جماعة. إنه طرح لم يتبلور بعد، ولكن الحديث عنه تزداد وتيرته في السنوات الأخيرة بعد الحديث المتكرر عن عيوب الديمقراطية وأوجه القصور فيها.. إن «الديمقراطية التوافقية» تعبر عن روح جديدة في نظم الحكم على نحو يستحق الدراسة، ويستدعي التأمل.

Read Previous

القاهرة أكثر أمنًا من باريس!

Read Next

المكانة والقدرة

0 0 votes
تقييم المقال
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

Most Popular

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x