لم يكن الخبراء الاقتصاديون الخليجيون والعالميون مبالغين أو متجاوزين للحقيقة، حين أكدوا أن تراجع أسعار النفط في الفترة الأخيرة، كما أن له جانبا سلبيا وضاغطا على الدول المنتجة للنفط، فإن له أيضا جانبا آخر إيجابيا، باعتباره يمثل فرصة كبيرة لهذه الدول، كي تعيد هيكلة اقتصاداتها، بما لا يجعلها معتمدة بشكل شبه كامل على النفط كمصدر وحيد ـ أو شبه وحيد للدخل ـ وتدشين عهد جديد تتنوع فيه مصادر الدخل ووسائل الإنتاج، وتصبح التنمية شاملة بالمعنى الحقيقي للكلمة، ويغدو المواطن في تلك الدولة مشاركا وفاعلا ومؤثرا في العملية التنموية، ومنتجا حقيقيا، وليس مجرد موظف بيروقراطي، لا همّ له إلا تقاضي راتبه وعلاواته في نهاية كل شهر.
ومن المهم أن تأخذ دول مجلس التعاون الخليجي، عموما، هذه التطورات على محمل الجد، وألا تنتظر حتى تفرض عليها فرضا إجراءات اقتصادية ومالية معينة… وكعادتها تبدو الإمارات دوما سباقة في تبني الأفكار الإبداعية والابتكارية، وفي قدرتها على التواؤم والتكيف مع مختلف المتغيرات والتطورات… وما أعلنه نائب رئيس دولة الإمارات رئيس الوزراء حاكم دبي سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم يؤكد هذا المعنى، وذلك حين فاجأ المنطقة والعالم بتصريحه الذي أطلقه مطلع هذا الأسبوع، والذي قال فيه: «إن دولة الإمارات العربية المتحدة ستحتفل قريباً بـتصدير آخر برميل من النفط، والبدء بوضع برنامج وطني شامل لتحقيق اقتصاد مستدام للأجيال القادمة»، وإعلانه أنه تقرر عقد خلوة وزارية موسعة الأسابيع المقبلة، بحضور الحكومات المحلية وخبراء الاقتصاد، لمناقشة «اقتصاد الإمارات ما بعد النفط».
ولا شك في أن الإمارات لم تبدأ هذا التوجه هذه الأيام فقط، بل قطعت فيه شوطا كبيرا، وأحرزت تقدما لافتا بحق، ويشكل نموذجا جديرا بالاحتذاء، وكما أشار الشيخ محمد، فإن 70 في المائة من الاقتصاد الوطني للدولة غير معتمد على النفط، وهو معدل كبير جدا، قياسا بكل الدول النفطية الأخرى، خليجية أو غير خليجية.
هذا النموذج ينبغي أن يكون ماثلا وبقوة أمام أنظار كل دول مجلس التعاون، فلم يعد هناك مجال الآن للاستمرار في السياسات الاقتصادية والمالية ذاتها، وبات من المحتم أن يحدث تحول كبير في اقتصادات هذه الدول، تحول يجعل التنمية الشاملة والمستدامة أساسا جوهريا في التخطيط الاقتصادي، وينهي ـ إلى الأبد ـ احتكار سلعة واحدة للدخل، وينقل دولنا إلى مصاف الدول القوية والقادرة اقتصاديا وتنمويا، حتى لا تظل اقتصاداتنا على الدوام في مهب رياح التغيرات الإقليمية والدولية، وتكون لها قوتها الذاتية، وقدرتها على أن تكون مؤثرة في الآخرين، مثلما تتأثر بهم.
الدرس الإماراتي مهم وفي وقته تماما، وفي اعتقادنا أن رسالته وصلت إلى كل من يهمه الأمر.