استذكرت الكويت هذه الايام مرور الذكرى الأولى على رحيل رئيس مجلس الامة السابق جاسم محمد عبدالمحسن الخرافي رحمه الله، بكل الوفاء والتقدير والإخلاص لتلك الهامة العملاقة التي عملت دائما لخدمة الكويت وأمنها وأمانها.
والعم جاسم الخرافي سياسي من الطراز الرفيع، اقتصادي فذ، ديبلوماسي مقتدر شهد له البعيد قبل القريب على تفكيكه صواعق الأزمات بإتقان تام حتى لقبه كثيرون بـ»الإطفائي»، كما انه رجل خير امتدت أياديه البيضاء لأصقاع الأرض في زراعة البسمة والرجاء على وجوه المحتاجين والمعوزين.
لم يعرف التحزب طوال مسيرته السياسية منذ معايشته لأول انتخابات نيابية تجرى بعد الاستقلال عام 1963 مرورا بقيادته الحملة الانتخابية لوالده الراحل محمد عبدالمحسن الخرافي، رحمه الله، عام 1967 وصولا إلى دخوله قاعة عبدالله السالم عام 1975.
وقاد مجلس الأمة، فتواصل مع الجميع، وأسرهم بدماثة أخلاقه وشخصيته السمحة، فكان دائما عنوان الحكمة البرلمانية وملاذ الجميع عندما تشتعل الأزمات.
قادته الإرادة الشعبية وصناديق الاقتراع إلى رئاسة مجلس الأمة، ولم ينس وهو على المنصة كونه رجلا اقتصاديا بارعا، فكان يدخر كل يوم رصيدا سياسيا، فازدهرت رئاسته بالهدوء ومناخ الاستثمار الديموقراطي واستحق أن يكون صاحب الرقم القياسي في رئاسة المجلس خلال 5 فصول تشريعية متتالية من 1999 إلى 2012.
وصيته الدائمة التي كررها طوال حياته، رحمه الله، كانت «حافظوا على الديرة»، كما رفع الراحل مقولة: «لست مُلكا لأحد إلا للكويت»، طوال مشواره السياسي الذي كما دخله غادره، ناصع الثوب مرتاح الضمير، مرضيا ربه ودينه ووطنه، مكتفيا بدعاء محبيه، وتاركا إنجازاته وعطاءاته هي الفيصل وهو الذي كان يتحمد الرحمن قائلا: حب أهل الكويت نعمة أحمد الله عليها دائما.
عرف بتواضعه الجم خلال حياته، فلم يشاهد له موكب ولم ترافقه حراسة معهودة لمن يكون في منصبه ولا طائرات خاصة، فأثار الإعجاب، رحمه الله، بمواقفه الخالدة وحكمته البالغة ومسؤوليته الوطنية وعطاءاته اللا متناهية.
أنهى دراسته الثانوية في الكويت واستكمل دراسته في كلية فيكتوريا بمدينة الاسكندرية وهي محطة دراسية لأبناء الملوك والأمراء والرؤساء والوجهاء، لكنه عاد الى الوطن عام 1956 بسبب العدوان الثلاثي على مصر ليدرس في ثانوية الشويخ ومنها سافر الى بريطانيا البلد المفضل لديه لقضاء اجازاته الخاصة.
ودرس في كلية التجارة في مانشستر ونال دبلوما في إدارة الاعمال، فمزج احترافه التجارة بشهادة علمية ليطير في عالم المال بجناحي العلم والخبرة، في عالم المال اسم عائلة الخرافي من الكبار، وفي عالم السياسة اصبح الخرافي من الكبار محليا وعربيا.
تشرب الراحل الكبير حس الوطنية المسؤولة وتقديم مصلحة الوطن على كل شيء آخر من والده الذي استقال من عضوية المجلس، مع 6 أعضاء آخرين، احتجاجا على عمليات تزوير شابت الانتخابات، فاستفاد جاسم الخرافي رحمه الله من تلك التجربة وبدأ في تكوين قاعدة شعبية قوية نتيجة اتصالاته المستمرة مع المواطنين، ودعمه للقضايا الوطنية وأهمها ضرورة المحافظة على استقرار وتطوير النظام الديموقراطي وقد دفعه ذلك الى التفكير في خوض انتخابات الفصل التشريعي الرابع والتي جرت في 27/1/1975 مدفوعا برغبته في القيام بدوره تجاه الكويت، وبقناعته ان استقرارها وأمنها يتطلبان ترسيخ النظام الدستوري الكويتي وتطويره والمحافظة على الاستقرار السياسي في إطاره.
عضو مجلس الأمة
دخل جاسم الخرافي المعترك الفعلي للحياة السياسية مع فوزه بعضوية مجلس الامة عام 1975، وكان الاصغر سنا بين الفائزين الخمسة حاصلا على 592 صوتا شكلت 20.2 في المائة من الاصوات، لتبدأ روح جديدة في مجلس الامة عنوانها «الموقف المستقل» الذي مثل مبدأ اساسيا للراحل منذ بداية مسيرته الوطنية، ما مكنه من الحوار بحرية مع اعضاء مجلس 1975، اعتاد أن يدلي برأيه دون ضغط او تحيز لكتلة او تيار، وينتقد الحكومة ان اخطأت ويشجعها ان احسنت الاداء، وينتقد من يجاوز الدستور، ويقف الى جانب اي من الاعضاء اذا ما تقدم بطرح ايجابي يدعم مسيرة الوطن ويؤكد ديموقراطية واستقلالية ومصلحة الكويت، وقد التزم منذ البداية الهدوء في الطرح، والمنطق في المعالجة، وكان حريصا على ان يظل التعاون مستمرا بين اعضاء المجلس ومتواصلا بين السلطتين التشريعية والتنفيذية في الاطار الدستوري من اجل مصلحة الكويت وأبنائها.
توالت عطاءات رئيس مجلس الامة السابق، رحمه الله، تحت قبة قاعة عبدالله السالم، فوصل لعضوية المجلس ايضا في 1981، و1985، ثم عين وزيرا للمالية والاقتصاد في 3/3/1985، واستمر في منصبه إلى 12 يونيو 1990، وعندما عاد الى صفوف النواب في العام 1996 قادته طموحاته إلى منصة الرئاسة، فخاض المنافسة امام البرلماني المخضرم احمد عبدالعزيز السعدون، فلم يحالفه الحظ في المرة الأولى، وفي العام 1999 تقدم على منافسه السعدون ليصبح رئيسا لمجلس الامة، اما العام 2003 فوصل الخرافي رحمه الله بالتزكية، وفي العام 2006 كذلك، اما في العام 2008 فخاض المنافسة مع منافس جديد، هذه المرة هو عبدالله يوسف الرومي، وكانت النتيجة لصالح الخرافي، الذي عاد رئيسا بالتزكية في العام 2009، في آخر مجلس امة ودّع فيه العمل البرلماني، وهو في اوج مجده.
الوزير
في الوزارة كما في مجلس الامة كان جاسم الخرافي رحمه الله صوتا وازنا وأحد رجالات الكويت الذين لا يغيبهم الموت فمآثره وانجازاته تجعله دائما عصيا على الغياب.
الغانم: الراحل الخرافي تمسَّك بالدستور واللائحة نصًّا وروحًا
اعتبر رئيس مجلس الأمة مرزوق الغانم ان الذكرى الأولى لوفاة المغفور له جاسم الخرافي ليست حدثا عابرا يمر على أهل الكويت مرور الكرام، بل هي مناسبة عزيزة على قلوبهم، يستذكرون فيها مواقف أحد رجالات الدولة الذين قدموا الكثير لدينهم ووطنهم وقيادتهم، وأهل الكويت جميعا.
وأكد الغانم في تصريح لــ القبس، بمناسبة مرور عام على وفاة الراحل جاسم الخرافي ان المغفور له كان كالطود الشامخ امام المحن والأزمات التي عاصرها طوال حياته السياسية والبرلمانية، مشيرا الى تمسّك المغفور له بالدستور واللائحة الداخلية نصا وروحا، من اجل حماية المؤسسة التشريعية من عبث العابثين.
وأشار الغانم الى ان الشواهد التاريخية تثبت ان الخرافي رحمه الله لم يتراجع في حياته، خصوصا عندما تولى سدة رئاسة مجلس الأمة عن مبادئه ومواقفه التي يتخذها بقناعة وهدوء واعتدال، بل كان عنيدا في الحق يصدح بما يؤمن به، ولا يخشى في ذلك إلا الله.
وقال الغانم: «مر عام على وفاة أعز الرجال، مر عام على وفاة أطيب الرجال، مر عام على وفاة الحكيم الذي يقطع بقوله جميع التأويلات والتكهنات والإشاعات».
وأضاف الغانم: «مر عام وفي كل يوم فيه نواجه أحداثا تذكرنا بصبره وحكمته، ذكائه وفطنته، تواضعه وحزمه».
وتابع الغانم: «آخر ما نقوله هو اللهم اغفر لعبدك جاسم الخرافي وأحسن نزله في جنة الخلد يا أرحم الراحمين».