أحيت دولة الامارات المتحدة ذكرى «اليوبيل الذهبي» لتولي مؤسس دولة الإمارات وباني نهضتها وعزتها، المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مقاليد الحكم بأبوظبي في 6 أغسطس 1966.. قبل 50 عاما تقلّد زايد إرادة البناء والعطاء.. قبل نصف قرن استهل رحمه الله مسيرة الوحدة والاتحاد.. ارتدى ثوب الطموح، وتسلح بالإصرار، وحرث الصحراء علما وعملا، وزرع في ثنايا الوطن أملا وطموحا، فأنبت إمارات الخير موطن التعايش وبلد العطاء.. زايد الذي رحل صامتا رغم ضخامة إنجازاته رحمه الله، كان أيقن الاتحاد بروحه وعمل لأبناء وطنه بفطرته، قبل الاتحاد أعلن في نهجه الوحدة.. قبل الاتحاد أقام للوطن كيانا من الأخوّة، يشدُّ بعضه بعضا ويتحد في النظر إلى المستقبل الذي نعيش اليوم.. مستقبل الأمن والأمان والحب والوئام.. مستقبل التسامح والسعادة.. مستقبل الابتكار والإبهار في قادم الأيام.. زايد ولد بروح الاتحاد ونشأ على حب الاتحاد.. عاش ومات ليبقى الاتحاد؛ من أجل الإنسان.
ستظل روحه حية وخالدة في ذاكرة ووجدان الوطن والمواطنين وقلوب ونفوس الأمة العربية والإسلامية بعد حياة حافلة بالبذل والعطاء، نذر خلالها نفسه وكرس كل جهده وعمل بتفان وإخلاص لخدمة وطنه وشعبه وأمته العربية والإسلامية والإنسانية جمعاء.
ويزخر سجل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان بصفحات ثرية ناصعة من المنجزات الوطنية التي سطرها التاريخ بأحرف من نور على مدى نحو 66 عاما متواصلة من العطاء في العمل الوطني والقومي، وذلك منذ توليه مهام ممثل الحاكم في مدينة العين بالمنطقة الشرقية في العام 1946 إلى توليه مقاليد الحكم في إمارة أبوظبي في السادس من أغسطس 1966 «المناسبة الذهبية التي تصادف اليوم» وحتى انتخابه رئيسا للبلاد بعد إعلان اتحاد دولة الإمارات في الثاني من ديسمبر 1971.. لتتواصل مسيرة الاتحاد متصدرة مشهد البطولة عربيا وإقليميا وعالميا.. رحمك الله يا زايد.
وتعلم زايد مبادئ الحرب والقتال بين البدو، فاشتهر بالشجاعة، وكان يقاتل للشرف لا للمغنم، ويبذل دمه رخيصا دفاعا عن أرضه ضد أي اعتداء أو غزو، وتلك ميزات أبرزت خصال وأصالة قائد استثنائي.
لقد أحب زايد البدو فأحبوه وامتلك الذكاء فقدروه، وعاملهم بود فاحترموه، وعاش بنفس طبيعتهم فاختاروه برضا وقناعة مرجعا لهم وقائدا لجموعهم.
وقد أهلته تلك الصفات والخصال ودبلوماسيته الفطرية وإدارته الإصلاحية، وأسلوبه المميز في الحكم خلال حكمه للمنطقة الشرقية، والإجماع حوله من مختلف الناس لحكم أبوظبي سنة 1966، وقد سبقت سنوات حكمه صعوبة في الحياة، لكن مع بدء استخراج النفط وتولي زايد للحكم، وإدارته المتوازنة ونهجه الإصلاحي تغيرت حياة سكان الإمارة.
مجلس التطوير
زايد حاكم وحدوي سابق الزمن لملء الفراغ بعد خروج البريطانيين، وساهم في مجلس التطوير لإنشاء المشاريع وتمهيد البنى التحتية في المناطق الشمالية، وعن مكتب التطوير الذي نذره الشيخ زايد لخدمة الإمارات، وفي هذا الصدد؛ يروي لـ «البيان» أحمد سلطان الجابر، وهو من رواد الاتحاد ومن أعضاء مكتب التطوير، إنه في الماضي الجميل، وفي هذه الفترة وبالضبط في سنة 1960، تبينت نهضة وبداية حركة اقتصادية في ربوع الوطن، وذلك من خلال تباشير ظهور النفط في أبوظبي أيام حكم الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، حيث بدأ النشاط بإنشاء مجلس الحكام «مجلس الإمارات المتصالحة» والذي يتناوب على رئاسته الحكام كل 3 أعوام بالتساوي، وفي ظل الإمارات المتصالحة بدأ التنسيق بشكل مباشر بين الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان وبين الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، الذي تولى حكم إمارة دبي سنة 1958، خلفا لأبيه الشيخ سعيد.
وقال الجابر إن زايد قبل توليه للحكم كان يساهم في مكتب التطوير على نفقته الخاصة والذي بدأ في تنفيذ المشاريع، كما أنه عندما تولى زايد الحكم في أبوظبي غير مسمى مكتب التطوير إلى «مكتب حكومة أبوظبي في الشارقة» وذلك عندما أعلنت بريطانيا انسحابها من المنطقة، من أجل إنشاء المشاريع وتمهيد البنى التحتية في المناطق الشمالية، لافتا الى أن زايد انشغل بعد ذلك بقيام «الاتحاد التساعي» ويضم قطر والبحرين اللتين انسحبتا لاحقا واعلنتا استقلالهما، وتمخض عن هذا الاتحاد قيام دولة الإمارات من 7 إمارات، إذ عضد زايد بكرمه وسخائه من الاتحاد، فلم شمل الإمارات المتصالحة.
ومكتب حكومة أبوظبي ساهم في توفير العيش الكريم لأبناء المناطق الشمالية، وعن تلك الجهود الحثيثة لزايد تحدث عبد الرحمن أمين الشرفا، وهو من الرعيل الأول الذي عاصر مراحل تكوين الدولة على يدي المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، وعايش الحلم الإماراتي وتحققه على أرض الواقع، وما تم الآن في الدولة من منجزات حضارية وعمرانية جاءت بفضل من الله وبجهد القائد ومؤسس الدولة الذي غرس الحب والعطاء في زمن قسوة ظروف الحياة وفتح مجالات أرحب برؤية ثاقبة.
ويذكر الشرفاء انه في أواخر الستينيات من القرن الماضي كانت المدارس قليلة وأعداد بسيطة من المواطنين تنال نصيبا من العلم والمعرفة، ورأى زايد ضرورة ابتعاث الجيل الجديد لكي ينهلوا من العلوم، ومن ثم يعودوا إلى الوطن للمساهمة في عملية التنمية والعمران، لأنه يؤمن بأهمية العلم والمعرفة في بناء الأوطان، وتم تكليف الشرفا بالإشراف على شؤون بعثة إلى جمهورية مصر العربية والسفر معهم، حسب توجيهات المغفور له الشيخ زايد، وعلى نفقة حكومة أبوظبي تم اختيار نخبة من المناطق الشمالية وأبوظبي وسافر الجميع إلى مصر ووجدوا ترحيبا كبيرا من القائمين وتم قبول الجميع في كلية الشرطة والجامعات.
وبعد الانتهاء من مهامه في مصر عاد الشرفاء إلى أرض الوطن والتقى المغفور له الشيخ زايد، والذي أبدى اهتماما كبيرا بشؤون الطلبة المبتعثين وارتفع عدد الطلاب المبتعثين، حيث وصل العدد إلى 70 طالبا مبتعثا للدراسة في مصر، وتم تأسيس مكتب في القاهرة لرعاية شؤون الطلاب وكانت هذه البعثة البذرة الأولى التي عادت مع قيام الدولة وعملوا في مناصب عدة، فكان منهم الضباط والسفراء والأطباء والتحقوا بوزارات الدولة مع بداية عهد الاتحاد، وكانت ثمرة رؤية القائد الثاقبة في تأسيس الدولة الحديثة المبنية على العلم والمعرفة والاهتمام بالإنسان.
بداية انطلاق الاتحاد
ووضع زايد يده في يد أخيه الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، وسارا إلى تأسيس دولة الاتحاد.
واجتمع الشيخ زايد بالشيخ راشد، وكان يرافقهما صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، عند عرقوب السديرة في فبراير 1968، الواقع بين أبوظبي ودبي، فكانت تلك الخطوة بداية انطلاق الاتحاد. فتأسس المجلس الأعلى، ثم مجلس الوزراء ثم المجلس الاتحادي الوطني، فكان الحمل ثقيلا على زايد وأخيه الشيخ راشد وإخوانهما حكام الإمارات وعلى أولياء العهود، ولكنهم تحدوا الصعاب وحولوا الصحاري إلى جنان بفضل التشاور والشورى، وبعد الاتحاد كانت النهضة سريعة وتسير بخطى ثابتة، وأصبحت مثالا يحتذى ويضرب به المثل من الدول التي سبقتنا بعشرات السنين.
نقش زايد اسمه بأحرف من نور ليس في التاريخ فحسب، ولكن في قلوب البسطاء والمحتاجين والفقراء والمرضى والمنكوبين الذين مد إليهم يد العون والمساعدة فأقام لهم دور العبادة والمستشفيات والمؤسسات الخيرية فتبدلت حياتهم من معاناة وكرب إلى هناء وعز.
الاتحاد طريق القوة والعزة والخير
شكل الاتحاد، كما آمن المغفور له الشيخ زايد، فرصة هيأها الله سبحانه وتعالى لجميع حكام الإمارات، من خلال وجودهم في مكان واحد، وقلوبهم جميعا عامرة بالإيمان بمبدأ الوحدة فجعلوا من اجتماعهم محطة تاريخية لتحقيق الأمل المنشود، فتحقيق الرخاء والازدهار والعيش الحر لشعب الإمارات ووجود صرح الاتحاد، كل ذلك نتيجة فكر الشيخ زايد وجهده وتفانيه وتخطيطه ونظرته وحبه وطموحه وتنفيذه، وتلك أوصاف وأمور حقيقية فيه لا مراء ولا شك ولا مبالغة فيها ويعرفها القريب والبعيد على حد سواء.
وكان فكر زايد منذ البداية وحدويا، وقال وقتها: «إن الاتحاد هو طريق القوة وطريق العزة والخير المشترك، وإن الفرقة، لا ينتج عنها إلا الضعف، وإن الكيانات الهزيلة، لا مكان لها في العالم اليوم، فتلك هي عبر التاريخ على امتداد عصوره»، ومنذ اللحظات الأولى لتأسيس الاتحاد؛ انطلقت عجلة العمل بواحدة من أضخم عمليات التنمية التي شهدتها المنطقة، ونذر المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، نفسه، وكرس وقته لخدمة الوطن والمواطن، وأعلن منذ الأيام الأولى لتوليه مقاليد الحكم تسخير الثروات من أجل تقدم الوطن، ورفعة مستوى المواطنين، فتحولت الإمارات خلال سنوات قلائل من قيام اتحادها الشامخ، إلى دولة عصرية مزدهرة بفضل القيادة الحكيمة، والعطاء السخي لزايد، حيث ارتبط الاتحاد منذ بداية مسيرته بتنفيذ برامج طموحة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة على مستوى الوطن. ومع زايد أصبح هدير الآلات في كل مكان وانتقل آلاف الأهالي من منازل العريش والطين إلى البيوت الصحية النظيفة وامتدت الطرق الحديثة فوق الرمال ودخلت المياه العذبة والكهرباء إلى كل بيت وانتقل التعليم من نظام الكتاتيب إلى المدارس العصرية. وظلت سياسة المجلس المفتوح التي اتبعها رغم مشاغله ومسؤولياته المتزايدة ثابتة لم تتغير مطلقا على مر السنين، ورغم تزايد الأعباء كانت لقاءات زايد بالشعب مبدأ أساسيا من مبادئه في الحكم.
مؤهل بفطرته لتدوين التاريخ
كان المغفور له الشيخ زايد مؤهلا بفطرته لتدوين التاريخ بما يملك من قدرات وإمكانات وملكات، وذهن منفتح على العالم، تحركه روح مؤمنة متفائلة متوكلة، مخلصة في عملها ومسؤوليتها القيادية، ذات إرادة قوية وعزم، وكان مرد ذلك كله إيمانه العميق، وقلبه الذي ينبض بالعطاء والخير للناس، وهمته وعزمه وإرادته التي لا تعرف الكلل، وحِلمه ولين جانبه الذي جمع حوله الناس.
وتغلب الآباء المؤسسون على تحديات عدة، وعملوا بجد ونشاط وعزم حتى اشتد البنيان، وجعلوا من الإمارات قبلة العالم.