بين الذكرى والتذكر مسافات في الأزمنة تمتد من الأزل إلى الأزل.. وعندما نقف وقفة تأمل في ذكرى رحيلك عن دار الفناء إلى دار البقاء لا يعني هذا أننا نتذكرك.. فكيف نتذكر من لم يغب عن بالنا لحظة واحدة بل كان حضوره يملأ الوجدان والعقل والقلب بتوجيهاته.. بمآثره.. وبكل خطوة نخطوها في حياتنا هي استكمال لخطاك وترسيخ لمبادئك المشبعة بالإيثار والعطاءات التي تعطي حياتنا معناها التي أرادها لنا الله سبحانه.. وفيها ومنها نستدعي لك الرحمة والدعاء من كل من عرفك وعرف ذريتك بخير ومودة ومحبة وفزعة ملهوف وشهامة موقف.
نعلم يا والدي وبعد مرور ثمانية عشر عاما على انتقالك إلى رحاب الله عز وجل أن الموت حق، ونعلم أن لا راد لإرادة رب العالمين، ولكن فراق الجسد صعب، فارقتنا من هذه الدنيا الزائلة إلى الآخرة الدائمة، وكنا نعتقد انك تركتنا ونحن أحوج ما نكون إليك، ولكن عندما نسترجع أعمالك نعرف انك تركت لنا الكثير الكثير الذي إن تمسكنا به لا نضل بعده أبدا فلقد كنت سندا، ومرشدا، وناصحا، وموجها أودعت فينا ما نحتاج إليه في مسيرة هذه الحياة المشاكسة وكأنك كنت تدرك أن يوما أو أياما ستأتي علينا لنخوض غمار الحياة وتياراتها وقيمها ولهذا ربيتنا لزمان متقلب غير زمانك الذي كانت فيه ثوابت الدين والعادات والتقاليد هي السائدة.
لا أخفيك يا والدي سرا أننا نواجه هذه الأيام ما كنت تتوقعه من قساوة في التعامل والعلاقات، لكن استحضار إرشاداتك هي «سيوفنا وخيلنا» وديوان محبتنا في كل مقام مقال.
لكن استميحك عذرا يا والدي بأن أقول في ذكراك إننا ونحن نسير على هديك فالكلمات لا توفيك حقك فهي اقل بكثير،رغم صعوبة المناسبة، مما تستحق، مع أنها تخرج من الوجدان مشبعة بالمعاني.. لكن اقل ما فيها أنها ترسم في قسمات التاريخ خارطة طريق لا تذروها رياح من هنا أو عواصف من هناك..
كم أتمنى يا والدي أن تشاهد ذريتك التي تركت فيها علما نافعا وأبناء صالحين يدعون لك وعملا يمتد إلى أن يشاء الله.
ثمانية عشر عاما من الغياب ومازلنا كما أردتنا نهتدي بنصائحك ونستلهم خبراتك في الحياة حتى غدونا نملك ما لا يملكه كثيرون.
وهنا نذكر أنك كنت الملاذ إذا ما ادلهمت الخطوب، وبحث المرء عمن يجد لديه الرأي السديد، والنصح الصادق، فكان دوما موجودا لديك،عندما كنت تشارك الناس همومهم وأفراحهم، فكنت المصلح بين الناس.
تغيب جسدا يا أبي، لكن رحيلك لم يكن نهاية حضورك الحافل بالعطاء، لكل من حولك، تلك البذور التي لم تكف يوما عن غرسها، لتثمر يوما ما عملا صالحا وفضاءات من الحس الإنساني.
أكتب لك هذه الكلمات إلى روحك الطاهرة ـ بإذن الله تعالى ـ لتهدئ لوعة أفئدتنا بعد أن حال بيننا وبينك عالم البرزخ، ولتكون مسلكا من مسالك التواصل الحميمي بين العطاء و الوفاء، ولتكون نوعا من رد الجميل والاعتراف بالفضل بين الأبناء والآباء.
الموت واحد والبقاء لله أما الحياة فيمكن للإنسان أن يتحكم في نوعيتها التي يحياها، وحياتك يا أبي كانت مرسومة كما أردت لها فلقد عشتها بما آمنت به من خلق وأخلاق، بعيدا عن الرياء والنفاق، فلم تزعج أحدا ولم تعتد على احد، فابتسمت لك الحياة فلم تستأثر بها بل وزعتها على الآخرين، فطوبى لك على ما عشت من اجله.
غفر الله لك يا والدي وتجاوز عنك، وتغمدك بواسع رحمته، وجزاك الله خير الجزاء يا من كنت لنا بحق الأب الحنون، والأخ الكريم، والصديق الصدوق، ونحن في ذكراك نعاهدك بان نسير على خطاك، نبقى الأبناء الصالحين الذين يدعون لك ليبقى عملك نهرا جاريا تنتفع به البلاد ويرتوي منه العباد.