عندما يتوافر الفساد في كل أجزاء أجسام الدولة ويتغطى بمختلف الألوان ويتسلل بأساليب مبتكرة وتحت مبررات تولدت من شطارة في فنون المراوغة، فلا بد أن نتوقف لإجراء حسابات المخاطر التي ستصيب أي بلد، خصوصاً إذا اتسع الفساد ليصل إلى حرمان المستحقين من نيل ما لهم من حقوق في ميزان العدالة ووفق قواعد القانون، ونتصور طوفان الغضب، وعلى الأخص عندما يحتل من أتى بالواسطة مكان المؤهل.
شاركت في هذه التجربة وحملت متاعبها وسعيت إلى التخفيف من حدة الصدمة وعذاب الغضب، ولم يكن لي سلاح سوى التلويح بالأمل في أفق المستقبل، لكن ذلك الطرح يظل عبثياً لأنني لا أملك آليات تجديد الأمل.
وإذا سلمت من شكاوى وتذمر الأم والوالد، فلم يكن لي حيل على مواجهة شابة متفوقة حصلت على درجة الاجازة الجامعية من جامعة الكويت برمز التخرج MG42VM، بتقدير امتياز مع مرتبة الشرف، وكانت من اللواتي جاءتهن تطمينات بأن الحكم سيكون منصفاً لأهل التفوق، وأن السكة أغلقت أمام التدخلات، فلا مكان للأصابع الغليظة، فالبحر هادئ وصاف ولن يتغير الطقس، كما لن تسبح فيه حيتان الازعاج، كان ذلك تصوري، لكن ذلك التصور تلاشى أمام قوة التدخل الثقيل القاسي الذي يبيح للمتواضعين التواجد في موقع القيادة المستقبلية، ويمنح العاديين المكان الذي رسمه المنطق لأصحاب المواهب الجادين، والحقيقة أن ما دفعني لأكتب هذا المقال جاء من خوفي من حدة السخط التي أشعلها الظلم الذي لحق بمجموعة من الخريجين والخريجات الذين تقدموا للامتحان في الأسبوع الماضي وانتظروا، معززين بالتفاؤل اعتماداً على انجازاتهم، متصورين أن الإنصاف سيعزز حقهم في القبول، ومع خروج النتيجة وغياب بعض الأسماء المتفوقة من لائحة المحظوظين، جاءت مشاعر الحيرة، عن ضياع الإنصاف وغياب التقدير وتجاهل المقدرة والاستحقاق بالتقييم الذي طبعته الجامعة على شهاداتهم الممنوحة للمتفوقين والمأخذوين بسحر الدرجات، فجاءت الحقيقة بأن هؤلاء الطلاب والطالبات تاهوا في تصورهم بأن الكفاءة هي مقياس الحق، وأن حقهم موجود بكفالة المنطق وبحماية سيادة القانون.
وتألمت لأن يجد هؤلاء الشباب والشابات أو بعضهم أن قواعد العمل خالفت كل الأعراف، لأنهم محمولون بأحلامهم بقوة الحق، فانكشف لهم الواقع بأن هناك أصحاب ضلوع ونفوذ من أهل التأثير والجاه، وانتابهم السخط، فلا حصانة للتفوق، ولا مقام للتميز، وحتى وجاهة الشهادة انحسرت وسط متانة أصحاب النفوذ..
لا بد أن نقلق خوفاً من امتداد الفساد واتساع بيئته في الكويت، حين تتسرب مكوناته إلى جسد الدولة وعظام المجتمع الكويتي، فلا يفلت منه جزء، ويتعرض الكل إلى اضطرابات عالم تسوده الأعراف التي يمارسها اللاعبون في ساحة الفساد، ويخرج من ذلك نظام حياة خالياً من قواعد السلوك النظيف ولا يحترم سيادة القانون، ولا يهتم بسلوك الانضباط التي تلتزم بها المجتمعات المتحضرة، كما لا توجد في مجتمعات الفساد ملاحقات قانونية ولا حرص جدي من السلطة على تصويب مسار الدولة التي تتحول إلى عالم السرية المقلق، فلا شفافية حول الميزانيات، ولا ملاحقات لوقف النهب من أملاك الدولة التي تأتمر بما يريده الزعيم أو حزبه المتسلط.
عانت دول عربية من سيطرة الفساد بعد أن تمكنت الأنظمة العسكرية من قبضة الحكم في عواصم عربية عريقة بوسائل التعتيم والتكتم وغياب المحاسبة والتسلط الذي يحوّل الدولة وما تملكه لحساب الزعيم ومساعديه، وظل العراق منذ سقوط الملكية فاقداً للحرية، وساحة للفساد، فضاعت أرصدته وثروته، ومع مرور الزمن صار الفساد متحكماً في أنفاسه، وبعد سقوط صدام تسابقت مختلف القوى السياسية على ممارسة النهب، فما زال العراق يعيش في بيئة فساد، ولا يختلف الوضع في ليبيا وسوريا واليمن ودول عربية أخرى.
ومن تجارب الدول الأخرى ومن مجتمعات عربية نتعرف على فنون الاحتيال في مجتمع الفساد، فالشهادات الأكاديمية مزورة، ومهنة الطب لا تخلو من خداع المغامرين، وقطاع المقاولات متاح للغش والتلاعب، فلا ينجو أي قطاع من سموم الفساد ومن محترفيه، ومن ابتكارات صناعه.
طغى الفساد وتطور مع التكنولوجيا، فالفساد الآن صناعة لها فنون ولها لوائح، ولا يتوقف، فتنمو وتنتعش في الأنظمة المغلقة التي تغيب عنها حرية التعبير وحرية العمل لمنظمات المجتمع المدني، ويتلازم الفساد مع الحكومات التي لا تخضع لدساتير وليس فيها قول أو رأي للشعوب، لأن منافذ التعبير فيها مغلقة.
ورغم أن الكويت مجتمع مستنير بدستور متقدم وحرية رأي وتعبير وحياة ديناميكية في السياسة والنشاط المجتمعي، فإن الحقائق فيها تكشف جرأة غير عادية في السرقات، في تجاهل مستمر لقواعد الردع الوطني، فالعمالة داخل الكويت استذوقت سهولة الاعتداء على حقوق الدولة، فنقرأ يومياً عن تجمعات تسرق المناهيل وتستولي على ما تجده في مواقع البناء والإنشاء، وتذهب في جرأتها إلى تدبير مصانع خمور محلية، مع تحد لقوانين الدولة في الإقامات والهروب من الكفيل، هذه مجرد مظاهر لتكاثف الفساد وتراخي الدولة في ملاحقته، فمن أصعب المراحل في مواجهة الفساد عندما يتسم العلاج باللين الذي لا يؤدي إلى الردع، وأخطر مراحله عندما يتغلف العلاج بالسرية، فلا يعرف المجتمع مصير تلك الأحداث التي تتردد عن روايات الفساد، ونهب الميزانيات واختفاء الأصول.
نجحت الدول في تطويق الفساد عبر إجراءات قاسية فيها حزم وعزم ومن دون رحمة، ومن دون استثناءات، فالسرقات الأكاديمية وتخطي المستحقين في التعيين ونهب الأرصدة كلها مؤشرات بوجود أزمة مؤذية، تمس قيم المجتمع وتلوث سمعته وتسيء إلى حيويته وانتاجيته.
وأكثر ما يخيفني من إفرازات الفساد ما قد يتولد من السخط الجماعي الذي يصيب فئات المجتمع بسبب ظلم تعرضت له في إنكار حقها المستند إلى الجدارة، مع مخاوفها من عذاب البطالة، وإسقاطات ذلك على وحدة المجتمع وترابطه وعلى مفهوم المساواة والعدالة.
نبقى أقوياء وفي حصانة الرضا والقناعة عندما نتصدى لمسببات الظلم ونغلق الأبواب التي يتسلل منها الفساد، ونعلن بقوة حجم العقاب الذي ينتظره الفاسدون.
***
مبروك القيادة العسكرية الموحدة لدول المجلس..
من إنجازات المجلس في قمة الرياض الأخيرة موافقة القادة على تعديل المادة السادسة من اتفاقية الدفاع المشترك من قيادة درع الجزيرة المشتركة إلى القيادة العسكرية الموحدة لدول المجلس، وحضر تدشين القيادة وزراء الدفاع في دول المجلس، في اجتماعهم الأسبوع الماضي في الرياض.
هذه الخطوة لا بد أن يقرأها المواطن الخليجي جيداً، ويتأمل في معانيها وحجم المسؤولية الذي يعنيه هذا الانجاز..
كانت قوة درع الجزيرة قوة معبرة عن موقف خليجي جماعي في تحمل العبء الأكبر في تأمين سلامة المنطقة واستقرارها، ولم تكن قوة فعالة وضاربة، بينما التطور في قمة الرياض الأخيرة هو المواجهة بالتعبئة العامة، وما تعنيه من قيادة موحدة يتم تجنيد كل الإمكانات لها.
وأسعدني كثيراً هذا القرار الذي يحمل معاني التحديد لهوية القوى التي تهدد استقرار المنطقة، في الماضي كانت جميع الأصابع تشير إلى إسرائيل كمصدر وحيد مهدد لها، في تجاهل للواقع الاقليمي الذي كنا نعيشه، الآن وضوح في حقائق المنطقة يحمل إيجابيات كانت غريبة عن الأدبيات الخليجية التي تجاهلت تهديدات الإقليم، ومن هذا التشخيص ترتفع مصداقية التحليل للواقع العسكري الخليجي، فلا مفر من الإشادة بالقرار الجديد وبالوزراء المتابعين وللأمين العام للمجلس والعاملين معه كل التبريكات والتقدير.
عبدالله بشارة
a.bishara@alqabas.com.kw
القبس 28 نوفمبر 2021