ينشغل سمو رئيس الوزراء المكلف الشيخ صباح خالد الحمد الصباح بالتواصل مع مختلف المشارب من أبناء الكويت، بحثاً عمن يستوفي شروط الأهلية التي تجعله مناسباً لاختياره شريكاً مع الرئيس في تولي مسار الوزارة وفق إستراتيجية التنمية والتطوير التي يتوقعها شعب الكويت، لأن أولويات العمل الآن وضع وثيقة تحمل وصفاً لمحتوى الكويت ومعانيها وموقعها في الجغرافيا السياسية لهذا الكون، ونيلها خطة عمل لتأمين منابع مستدامة للدخل مع ترسيخ سيادة الدولة وتأمين توافقها مع طموحات الشعب.
في هذا المقال أحاول إبراز مزاج الكويت في أولوياته واختياراته وتوقعاته بأن يلتزم رئيس الوزراء في محادثاته للتشكيل الوزاري بانتقاء القادرين على التفاهم مع طموحات الشعب والتكيف معها وتلميع تراثها وإنسانيتها، وأهم المنابع التي تلتزم بها الدولة مبادئ الإسلام النبيلة وما يحمله من إيحاءات روحانية ودعواته بنظافة الضمير والحرص على الاستقامة وحسن الخلق وطيب السمعة، ويتميز هذا الوفاء لقيم الدين بالحرص على توظيف العقل في التصرف وفي اختيار الأحكام والتعبير الصريح عن المواقف، فالدولة الكويتية دولة مدنية دينها الإسلام، وقواعد مسارها السياسي والاجتماعي جسدها الدستور الذي في حقيقته تعبير عن تراث الكويت وترجمة لواقعها، وأشهر ضوابط التواصل في مجتمعها هو الإيمان بمبادئ إنسانية عظيمة في التواصل والتراحم وفي نزاهة الحوار القائم على تبادلية الاحترام وصون التكاتف الذي كان تاريخياً قطب الرحى في الحفاظ على سلامة الكويت منذ ولادتها، مع تأكيد دور الاعتدال في الفكر والسلوك، وجوهره احترام الاختلاف في الرأي وقناعات الطائفة وشرعية الاجتهادات.
وتأتي قوة المفردات في الدعوة إلى الاعتدال من وعي بمخاطر التطرف والغلو في المواقف واللسان، ومن هذه المنظومة الأخلاقية الإنسانية تدخل الكويت مرتاحة ومعززة إلى تجمع الأسرة العالمية، حاملة لوحة تعلن اعتدالاً في المفاهيم ونضجاً في السلوك، دولة متمدنة على وعي بضرورات العلم وتطوراته، دولة دستورية ديموقراطية متفتحة على أمواج المستجدات لا تشتهي التضييق وترفضه، وشعارها الاستنارة.
بهذا المنظر الإنساني الحضاري المشوّق، ينتقي سمو رئيس الوزراء مساعديه وشركاءه في حمل المسؤولية، فلا مكان لمن يسعى إلى تقليص حجم الانفتاح، متسلحاً بتفسيرات من اجتهادات لبشر، ولا قبول لمن يختزن حدة في النهج الطائفي، فالعالم يتسابق في البحث عن إبداعات فكرية وتجديدات في قواعد العمل، ويندفع لإيجاد علاج لمختلف مسببات التأخر، ويجتهد لهزيمة الاعتلال الصحي، ويعزز البحث عن اكتشافات حول تقلبات المناخ وتقليص المياه وضعف المخزون الغذائي، وهذه ملفات تشغل الأسرة العالمية.
والأمل أن يلاحظ الرئيس الأجندة العالمية ويسعى إلى ضمان روح الكويت في الأسماء التي يرشحها لتكون في معيته في قيادة الكويت المستقبلية، وبكل صراحة ندعو الرئيس إلى أن يتجاهل إغراءات المحاصصة، ويغلق مسار القبليات ويختار المناسب المؤهل الذي يضيف شيئاً إلى ملف العمل، لا أن يكون عبئاً ثقيلاً يحتار رئيس الوزراء في وسيلة التخلص منه، ونضيف بأن ما كنا نشهده سابقاً من تواجد ممثل للسلف ولتجمع «حدس» داخل الوزارة لا يصلح لهذه الفترة التي لا ترتاح للعصبيات مهما كانت توجهاتها.
كانت تجارب الكويت مع الحكومات السابقة التي شكّلها الرئيس لا تعبّر عن طموحات المجتمع، الأمر الذي أبرز فترات كانت العبثيات محركها الأكبر، ولم يكن الرئيس مهندسها وإنما وقع في مطباتها وخسرت الكويت بسببها الكثير من الجهد والوقت وتأثرت صورتها المتألقة وضعف وهجها، ونذكر سمو الرئيس أيضاً بأن الكويت تستحق من يضيف إلى المنصب بدلاً من التحصّن بداخله، من أصحاب المواقف الذين لا يترددون عن طرح وقائع التفاصيل أمام البرلمان اعتماداً على قاعدة ثنائية الشراكة في إدارة الدولة بين المجلس والحكومة، برعاية أميرية سامية، ونذكر سمو الرئيس أيضاً بأن الكويت دولة مدنية تتأثر بالمستجدات في فنون إدارة الدول، وتعمل على الاستفادة من مخزون الخبرة من التجارب الإنسانية في هذه الفنون وفي كل ما يقوي عروقها ويبهج شعبها.
ولا نريد أن نكثر المواعظ على الرئيس في هذا المقال، وإنما الأهم في تجارب الشعوب هو مقاومة المغامرات والتصدي للتطرّف والاتساع في شبكة المشاورات، وأستذكر جيداً الدروس التي تشكّل أهم منجزات المرحوم الشيخ عبدالله السالم في التعامل مع هموم الوطن آنذاك، عبر مشاورات هادئة، تنقيباً عن الأفضل، والاستماع إلى من مده الله بالحكمة ونزعة التأمل والحذر.
كان الشيخ عبدالله صبوراً في تعامله مع بريطانيا التي كانت لها اجتهادات لم يكن متحمساً لها، فتواصل في اجتماعات أسبوعية مع المقيم السياسي البريطاني، ودائماً في قصر دسمان، ودائماً في الساعة السابعة والنصف صباحاً، يحضرها معه شخص اسمه أشرف لطفي، وكل ذلك مسجل في الوثائق البريطانية.
ومن ملاحظاتي حول إدارة الشيخ صباح الخالد لشؤون الدولة أنه يحتاج إلى تكثيف قنوات تواصله مع المنصات المختلفة للمجتمع الكويتي في حوارات مفيدة حول قضايا التنمية والتطوير، وحول آليات تنظيم المجتمع، لكي لا تضيع الأولويات وتتلخبط الاهتمامات، ولا يعتدي طرف على حقوق الآخرين، مثلما شهدنا في اجتماعات البرلمان في الفترة الماضية، وفوق ذلك يوفر التواصل ميزة حساسة جداً، وهي الوقوف على نبض المجتمع حول العاجل وغير العاجل وحول الجوهري والمعقد، الأمر الذي يساعد في الوصول إلى القرار الصائب.
وننقل ملف ما يتمناه أبناء الكويت، وتقع التنمية في صدارة الأولويات، ونضيف إليها الحرب على الفساد الذي اتسع، ليس فقط بالتضخم المالي غير الشرعي، وإنما خرق القوانين والدوس على القواعد والانتصار للواسطة، وتجاهل أصحاب الحق في التوظيف، ويمكن لي أن أشير إلى أن الوضع الاجتماعي قد يتصلب ليفرخ تجمعات من الحانقين والغاضبين، الذين لم تنتصر لهم القيادة في احترام القوانين التي وضعتها لإدارة الدولة، فلم يعد لأصحاب المواهب والإبداع مجال اختراق جدران الوساطة، التي يتحمل نواب في مجلس الأمة هندستها أمام الأغلبية، التي سلاحها التميّز من دون تغطية نيابية.
وما يزيد الوضع تعقيداً أن الجهاز الوظيفي للدولة يحتاج إلى تغيير وتجديد تفاهمه مع فلسفة العمل وضوابطه وتأمين نجاحه، مع إبعاد العاجز وتشجيع الواعد، ومن دون الحزم يستمر الخمال والميوعة وتتعطل مصالح الدولة.
وبودي أن أتطرّق إلى المسؤولية الأخلاقية المطلوبة من رئيس مجلس الأمة، فمن أهم واجباته تعظيم ثقة الشعب بمساهمة الأعضاء في تحقيق الأهداف التي يريدها، والتي لا تتحقق من دون سيادة القانون واحترام ضوابط العمل، ويعرف الرئيس أن أولويات معظم النواب زيارة الوزارات والهيئات من أجل التدخل في التعيينات وفي اختيار الإدارات والمكاتب، ومنها يأتي الاضطراب الإداري والخلل في الانضباط والإرباك في الإنجاز، وأخطر من ذلك تصدعات وانشقاقات في جدار الوحدة الداخلية.
كما أتمنى من سمو رئيس الوزراء أن يبتعد عن توزير النواب، كانت تجربة تعسة، خلقت تصدعات في استقرار الأولويات وفي الانسجام الوظيفي.
وختاماً، أدعو مخلصاً أن يوفق الله سمو رئيس الوزراء ويشحنه بالعزم والتصميم ويقويه ليزيد من حواراته، ويدشن وضعاً مستجداً متدفقاً بالحيوية وديناميكية التحرك نحو الإنجاز.
بهذا تكتمل اللياقة القيادية التي أساسها الأخلاق الحميدة، ويملك سموه الكثير منها، إضافة إلى نظافة اليد وجمال اللسان وله رصيد عظيم فيهما، والفرص الذهبية نادراً ما تدوم.
عبدالله بشارة
القبس 5 ديسمبر 2021