لم أكن أتصور مدى الرصد الخليجي لتجارب الكويت مع الحياة البرلمانية ومتابعتها بالتفاصيل، وتحليل دورها المؤخر والمعطل لمسار التنمية في الكويت، مع بطء القرار وحجم العذاب الذي تعيشه الحكومة، لأنها لا تملك أغلبية برلمانية تدعمها في قراراتها، لاسيما المهمة منها، وإفرازات هذا الوضع على قدرة الحكومة لقيادة البلد.
ولم يأت الحذر الخليجي لعيوب في مبدأ النظام الديموقراطي، وإنما جاء من عجز الحكومة في اتخاذ القرار، وأيضاً من الانقسامات التي تبرز في الجلسات التي تطرح فيها قرارات استراتيجية حيوية لمختلف جوانب الحياة في الكويت، وما تخلفه من تباعدات في المواقف تبرز تباين الخلفيات التي يتشكل منها المجتمع الكويتي.
ولا يتردد الأشقاء في الخليج في إظهار الاستغراب من المستوى المتردي للمفردات وسخونة الخناقات وما يرافقها من تطاولات تمس الوزراء، وحتى رئيس الوزراء نفسه لم يسلم من تلك القذائف وبكل بشاعة.
وما دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع، مشيراً إلى حقيقة امتداد الحذر الخليجي، ليصل إلى المساعي لتطوير منظومة مجلس التعاون، بأفكار واجتهادات تفيد مسيرة المجلس، لكنها تتعثر أمام حساسيات تخرج من الحرص على الابتعاد عن التأثر بتجربة الكويت.
بعد مرور سنوات على قيام مجلس التعاون، قدم المرحوم الشيخ جابر الأحمد ملفاً تم توزيعه على القادة، يقترح فيه تشكيل هيئة تترجم النبض الشعبي للمواطنين، معبرة عن أولوياتهم ورغباتهم، كما تؤسس هذه الهيئة لعلاقات ترابطية فاعلة بين المواطنين والقيادة، وطلب مني الشيخ جابر توزيع الكراس، الذي يحمل ذلك المقترح، على القادة فقط، ولم يجد ضرورة لتوفير نسخة من المقترح للأمانة العامة.
وتقديراً لأهمية محتويات الملف، كان قرار القادة دراسته مع تواصل الحوار للوصول إلى أفضل الخيارات، وتسيد الهدوء حياة هذا الملف لسنوات طويلة.. رغم أن ذكره موجود في جميع حوارات القادة وفي كل قمة.
وطالت رحلة الملف، كان يتم خلالها تبادل الأفكار بحثاً عن الملائم للبيئة السياسية والاجتماعية الخليجية، وكانت الأعين أيضاً ترصد أداء مجلس الأمة الكويتي ومدى انسجامه مع مسار الحكومة وحجم التوافق ومدى فاعلية القرار.
كانت المتابعة تتم بين القادة، ولم يكن للأمانة دور في هذا الشأن، والذي حرص فيه المرحوم الشيخ جابر على الاحتفاظ بالمرجعية تأميناً لتحقيق التوافق من دون صخب إعلامي.
مرت سنوات كان فيها التدقيق حول الصلاحيات التي تملكها الهيئة المقترحة عميقاً وواسعاً، في حرص على أن تبقى المبادرة بيد الدول وليس لدى الهيئة، وأن تلتزم الهيئة بدراسة ومتابعة ما يريده القادة منها، ومن هذا التوجه ولدت الهيئة الاستشارية لمجلس التعاون، ومن الكويت جاءت فكرتها، ومن اجتماع القادة في الكويت 1996 خرج اسمها، تضم ثلاثين عضواً، خمسة من كل بلد، نالوا ثقة القادة، لأن معظمهم شارك في التأسيس ورافق العمل منذ البداية.
وعقدت الهيئة أول اجتماعاتها في الكويت عام 1998، بعد أن تمت المصادقة على ولادتها في قمة الكويت في ديسمبر1997، وكان نصيبي أن أكون أول رئيس لها.
واصل الخليجيون متابعة ما يدور في الكويت من تباعدات بين الحكومة والمجلس، مع تصاعد الاستجوابات وما تبعها من استقالات للوزراء، وما خلقته من أزمات وزارية حصيلة تعدد التشكيلات الوزارية لسد فراغ المستقيلين، وتزداد السخونة مع طرح الثقة برئيس الوزراء، وتبدأ حالة انحسار الاستقرار مع تصاعد القلق وتآكل الثقة بتحقيق التعاون مع المجلس، الذي كان التسابق فيه نحو المنافع للأعضاء، مع تعاظم نزعة الوجاهة والبحث عن وسائل تأمين عودة العضوية بالاستنجاد بالقبيلة، وإن انعدمت فلتكن المذهبية، والاستغاثة بالفئوية، وتلاشى مع الوقت بريق الجاذبية الديموقراطية الكويتية، وضعف صيتها مع ضياع مسارها والاختلاف حول منافعها.
شعرت بقوة الحذر وشدة المخاوف من احتمال تسلل تجربة الكويت البرلمانية إلى مسيرة المجلس، عندما اقترح المرحوم الملك عبدالله بن عبدالعزيز، ملك المملكة العربية السعودية، الانتقال من التعاون إلى الاتحاد، وقرار الدول تشكيل لجنة لبحث هذا المقترح، وكنت أحد أعضاء الفريق الكويتي، الذي شارك في دراسة هذا المقترح التاريخي.
كنت أشعر بأن تجربة الكويت تطل علينا في مداولات لجنة الانتقال من التعاون إلى الاتحاد، ليس شكاً في أهداف المؤسسين الكويتيين، وإنما في ممارستها كما يراها الخليجيون، فلم يكن لإيجابيات هذه التجربة تأثير على الأعضاء، وإنما برز التحسس السلبي من تطبيقها، ولذلك كان الحذر يرافق المداولات وبكثير من التردد، ارتياباً من مستقبل مملوء بالمطبات وخوفاً من أثقال التجربة الديموقراطية الكويتية.
ولم تتوصل اللجنة إلى تقدم نحو الاتحاد، وكان الارتياح من آلية التعاون بارزاً بقوة في تأكيد بأن السيادة لن تمس، ولن تتسلل قوى مجلس التعاون أو تأثيراته على القرار الوطني، خاصة أن صيغة التعاون لم تنته وما زالت الملفات لم تكتمل.
بالأمس القريب، وفي اجتماع الهيئة الاستشارية في مسقط الأسبوع الماضي، وأنا أحد أعضاء الفريق الكويتي، كان جدول الأعمال الذي أمامنا يحمل مذكرة تنشيط عمل الهيئة نحو إعطائها الحق في أخذ المبادرات المناسبة لها، وبما يتعدى ويتجاوز القيود المفروضة على أعمالها في مبادرة غير متوقعة.
وكان النقاش حول الموضوع طويلاً، متبايناً، ولا يخلو من الضيق من صغر مساحة العمل المسموح للهيئة، ومرة أخرى يتسلل شبح التجربة الكويتية، بما فيها من تعطيل وشلل وافتقارها للإنجاز وهدر طاقتها في منازعات مؤذية سياسياً، ومزعجة اجتماعياً، وجمودها إنتاجاً.
كتبت هذا المقال لرسم واقع غير وردي يرافق الأشقاء في مجلس التعاون عن تجربة الكويت، وبما يبرر نقل تلك المشاعر ليقف عندها من يهمه حماية التجربة من إسقاطات الخناقات ليجدد حيويتها.
رثاء الشيخ خليفة بن زايد
انتقل إلى رحمة الله الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة.
كنت أرى الشيخ خليفة في الكويت، حيث كان ينزل في الشيراتون في طريقه إلى أوروبا، وكان الشيخ صباح الأحمد – رحمه الله – حريصاً على الاطمئنان عليه.. كان ذلك في الستينيات.
كان الشيخ خليفة يتحاشى الاتصالات الرسمية، خاصة في عبوره إلى أوروبا عن طريق الكويت، كان قليل الكلام، تجسيداً للأدب الراقي، وبعدها التقيت به عدة مرات في أبوظبي، واستمعت إليه في حضور المرحوم الشيخ زايد، كان قيادياً في سلوكه، مستوحياً سلوك والده، وساعياً لتحقيق ما يريد، ومحافظاً على وقار المكانة كولي العهد، بعيداً عن إثارات الإعلام، منسجماً مع الجميع، القريب والبعيد، ملتزماً بالتراث، منفتحاً على الثقافات، عازماً على نقل الإمارات إلى عصر التكنولوجيا، واعياً لدور الإمارات نحو السخاء الإنساني داخلياً وخارجياً، نحو الدول النامية، وشريكاً مع الدول المتقدمة لترسيخ الأمن والاستقرار في هذا العالم، لا شك بأنه حقق الكثير من طموحاته، نراها الآن في قفزات دولة الإمارات نحو الفضاء، وفي الانفتاح نحو المعرفة، ويخلفه الشيخ محمد بن زايد متوجهاً لعلم الفضاء والتقنية، وتكسب الإمارات مقاماً عالمياً جسدته الوفود العالمية التي جاءت تعزي.
رحم الله الشيخ خليفة، غاب عن عالمنا من استحضر السعادة لكثيرين، عالمنا اليوم فقير من دونه، كما كان ثرياً بوجوده.
عبدالله بشارة
a.bishara@alqabas.com.kw
(القبس) 22 مايو 2022