كنت في زيارة لمجلس العموم البريطاني، بصحبة السفير المحبوب خالد الدوسيان، للالتقاء ببعض أصدقاء الكويت من النواب البريطانيين، ولم يخف هؤلاء النواب إعجابهم بمرزوق الغانم رئيس وفد مجلس الأمة الكويتي، الذي زار بريطانيا، والتقى مع مجموعة برلمانية بريطانية، استمعت إليه متحدثاً عن تجربة الكويت البرلمانية بإيجابياتها ومعاناتها، ولأول مرة أسمع منهم ثناءً وإعجاباً بما قدمه من ملاحظات مستخلصة من تجربته كرئيس للمجلس.
وكان مصدر ملاحظاتهم أن الرئيس مرزوق يتحدّث بصدق ويشرح بوضوح ويثني على الإيجابيات، ويتطلع مستقبلاً إلى تطوير التجربة.
وسعدت كمواطن بما سمعت، فزيارة الوفود البرلمانية الكويتية إلى مختلف الدول لا بد أن تضم القادرين على التحدّث في التعريف بالمبادئ التي يرتكز عليها الدستور، وجوهرها سيادة القانون، وحق التعبير، والمساواة، في منطقة لا تتعايش مع معاني الديموقراطية.
تولى مرزوق الغانم رئاسة المجلس أربع مرات، كان فيها مبادراً، عارفاً بواجبات الرئاسة، مؤكداً حرصه على سلامة التجربة، فيلعب دور المهدئ، ويبني جسور التفاهم بين السلطتين، ويتدخل نحو الاعتدال في التعبير والمفردات، وفي جوهر المطلوب لكي لا تحترق الصيغة الوسطية في الطموحات، ولكي لا تزحف على التجربة مشاعر النفور، ملتزماً بالابتعاد عن المبالغات في الطلبات، وساعياً إلى الحلول المقبولة، ولهذا فقد بنى علاقة، قاعدتها الثقة المتبادلة، وجوهرها حماية المسيرة، فنال ثقة القيادة العليا، الأمر الذي وفّر له طرح الأفكار والمقترحات التي تؤمن مواصلة الطرفين.
هكذا كانت أحكامي الخاصة حول رئاسته، وأعرف أن علاقته بالمرحوم الشيخ صباح الأحمد ترتكز على تجربة، أفرزت الاطمئنان لدى القيادة، وأعتقد أن سجله في تأمين الطريق المريح للطرفين لم يوفّر له ارتياح بعض النواب، لأن اجتهاداتهم مغايرة، وأهدافهم مختلفة، ومن هذا الوضع ظهر مجرى برلماني مخالف لاجتهادات الرئيس، ولم يكتف المنتقدون بالانتقاد، وإنما بدأت الميول نحو العرقلة التي تبدأ عن طريق بروز تجمع يكسر احتكار السلطة، ويشوشر على أجواء الصفاء بين القيادة والرئاسة، ومع مرور الوقت انطلقت حدة المواجهة، ولم تكن معارضة مرزوق الغانم محصورة في البرلمان فقط، وإنما ظهرت خيوط مرسومة للتضييق من توجهات خارج المجلس، ابتهجت بحدة المعارضة البرلمانية، فكان الالتقاء على انطلاق المناكفات في القاعة، مع تناغم في بعض أجواء الصحافة، وفي ما يسمى رسائل الميديا، تشوه وتطلق السهام على الرئيس، وتتجاوزه إلى تهم حول ميوله نحو التجار وغرفة التجارة، وما يسمى هوامير التكسب وأمراء المناقصات.
ومن الإنصاف الإشارة إلى أن الرئيس مرزوق الغانم لم يسع لإغلاق منافذ المعارضة داخل البرلمان، فتعامل مع تصاعد التوجه بالصلابة، التي تحملها مفرداته المعبرة عن مواقفه، كان عليه تطويق موجات الانتقاد الداخلي، وكان عليه أيضاً أن يظهر الحميمية التي يتطلبها الموقف في علاقته مع الأعضاء.
كانت سياسته توحي بنغمة غير المهتم بما يقولون، فانتشرت بذور الصدام، وارتفع عزم منتقديه على التصعيد إلى العلنية في توجيه القذائف التي أتت من مختلف التيارات، وكمتابع لأجواء المجلس وخلافات النواب، كنت أستغرب مواصلته للنهج الذي تبناه، والذي كانت مظاهره تأكيد قدرته على تجاوز الوضع، موحياً لنا كمشاهدين بأنه أصلب من سهام الناقدين، ومستغنياً عن مؤازرتهم، وتكرار الاعتماد على شعبيته في الدائرة الثانية، كل ذلك يتم بتقاسيم التحدي.
كان مرزوق الغانم مقرّباً من الأمير المرحوم الشيخ صباح الأحمد، الذي كان يرى فيه الاعتدالية الآمنة، والرئيس المدرك لمعاني الدستور، والواعي للتضامن الحكومي – البرلماني، لكن وفاة المرحوم الشيخ صباح الأحمد، مع التبدلات التي أعقبت الوفاة، أبرزت مستجدات مغايرة للبيئة، التي احتضنت الرئيس مرزوق، وكان واقعياً في قراءاته للأحداث، فترك الرئاسة وتخلّى عن حماسه النيابي، متابعاً من دون جروح، ومخططاً من دون تشويش.
في الانتخابات الأخيرة، كان دور مرزوق الغانم التحدي ليس في النجاح، وإنما في موقع بارز من اختيارات الناخبين، فجاء متفوقاً بعدد الأصوات غير المسبوقة، وتبدأ الجلسة الأولى في افتتاح الدورة للبرلمان المستجد، فيشق النائب مرزوق مسار الترتيبات، بنقطة نظام لم يتقبلها الرئيس، وكان الرئيس مصيباً بصرف النظر عن المادة التي تسمح له بالتدخل، كان مستعجلاً ومدفوعاً بشيء من الاستياء لأساليب المعارضة، وما تحمله من اتهامات ليست صحيحة، وإنما من حصيلة الحدة في التباعد بين مرزوق وعدد كبير من النواب، وكان اعتراضه على توزير الشيخ أحمد الفهد، مهما كانت صحة المادة التي استنجد بها مرزوق، مزعجة في توقيتها وفي مادتها، ولا توحي بتباشير الألفة والتفاهم وإنما العكس، فالمستقبل يحمل الكثير من المطبات.
في يوم الإثنين 26 يونيو 2023، أعلن النائب مرزوق الغانم تقديم سبعة قوانين عن المرأة في البرلمان، وحرمان المسيء، وموضوع ساخن عن حل مشكلة البدون، وجهاز الجنسية والبديل الإستراتيجي، هذه كمرحلة أولى، ومن المؤكد ستتبعها خطوات أخرى.
هذه مقترحات ليست صديقة للرئيس السابق مرزوق، ولن تنال الاهتمام مهما كانت أهليتها، ومن حقه أن يقترح، لكن من حق البرلمان أن يقرر، ولا شك في أن النواب المعارضين سيزداد حماسهم بتجريد مرزوق الغانم من أي مقترح يرفع أسهمه لدى الحضن الشعبي، فكل جهودهم ستنصب على كسر مرزوق، وتشويه نواياه، ويبقى مرزوق منبع تساؤلات من الرأي العام الكويتي، فهل سيطمح مرة أخرى بكرسي الرئاسة؟ لا أتصور ذلك، وقد يستمر دورة أو أكثر، لكنه سيبقى هدفاً لكل من يريد المعارضة، وستتكاثر عليه التهم وستزداد ممارسة تبادلية الاتهامات بين أنصاره ومعارضيه.
تبقى مجموعة من الأسئلة عن دور الرئاسة في مسيرة البرلمان، لا يكفي بأن مرزوق فهم دوره كرئيس، ليس لإدارة الجلسات، وإنما كشريك في الحفاظ على صحة الحياة الدستورية وعلى ضمان حيويتها، وتقديمها واتخاذ قرارات تتعلق بمصير الدولة في أمنها وفي ازدهارها وفي موقعها الخليجي، والعربي والعالمي، وأهم العناصر هي تأمين الأمن والسكينة والحفاظ على علاقات إستراتيجية مع الحلفاء، وهم شركاء الكويت، وفوق ذلك، كان مرزوق متفهماً لضرورة أن تكون طموحات المجلس وفق قدرة الدولة على تحقيق هذه الطموحات.
وغير ذلك، ستفقد الكويت مآثر الموقع المميز لرئيس المجلس في النظام السياسي لدولة الكويت، وما يؤهله ليكون ناصحاً وشريكاً في السياسة العليا للدولة، فواجباته تتجاوز إدارة الجلسات إلى تقديم الرأي المقبول شعبياً وبرلمانياً الذي تتبناه الدولة في خطتها التنموية.
كان مرزوق الغانم متحدثاً، مؤثراً في البرلمانات الإقليمية والعالمية، وكذلك في زيارات مجلس الأمة الخارجية، وفي شروحاته للوفود القادمة، وسيفقد النواب الدور التوفيقي، الذي كان يقوم به بين الأعضاء، ويوفق بين الاجتهادات، واضعاً مصلحة البلد، ومحافظاً على الحياة الدستورية من دون تعثرات.
يقولون الكويت تملك سحراً فاعلاً في التفوق على الأزمات، وفي حلول المشكلات.
عبدالله بشارة
a.bishara@alqabas.com.kw
القبس 23 يوليو 2023