• يناير 27, 2025 - 7:16 صباحًا

 أحمد العصار يكتب: أسرار من حياة الفريق العصار

“لو سمحتي، شيلي ‘الكانيولا’ من يدي اليمنى وحطيها في ‘يدي الشمال’…” هكذا وجه محمد العصار كلامه إلى الممرضة في غرفته بأحد المستشفيات العسكرية قبل وفاته بأسابيع قليلة، وبعد اكتشاف إصابته بمرض عضال. كان الرجل في الرابعة والسبعين من عمره وقد قضى معظم أيام حياته يعمل بلا كلل أو ملل، لكنه أصر على إكمال مسيرته حتى وهو مريض وفي أيامه الأخيرة، لذلك طلب من الممرضة أن تنقل “الكانيولا” من يده اليمنى إلى يده اليسرى ليتمكن من إنجاز البوسطة التي جاءت إليه من مكتبه في حقائب متراصة إلى جواره في نظام محكم.

مثل كثير من أبناء جيله، لم يكن العائد المادي هو هدف العصار أو محركه الأساسي. أذكر أن شعار “الحالة ج” كان يُرفع كثيرًا في بيتنا وأنا صغير، كما أذكر السيارة “السيات” الصغيرة التي لم يستطع والدي تغييرها لسنوات طويلة. كنا ننتمي إلى الطبقة المتوسطة وكانت “مستورة”، لكن كانت لتطلعاتنا حدود، وكان والدي ووالدتي يبذلان كل ما في وسعهما لكي لا يشعر أبناؤهما بضيق ذات اليد.

“إن كبر ابنك خاويه”… نفذ والدي هذا المثل بحذافيره، فبعد دخولي كلية الهندسة قال لي والدي: “لقد ربيتك لتعلم ما هو صحيح وما هو خاطئ، ومن الآن أنت حر فيما تفعله، لكن عليك تحمل كامل المسئولية عن تصرفاتك.” ظلت هذه الجملة في وجداني إلى الآن، ومنذ ذلك الحين أصبح والدي صديقي وناصحي.

أزعم أن الله قد وهب والدي الحكمة وحسن تقدير الأمور، فقد كان لديه قدرة على التحليل العميق وقياس رد الفعل وتوقع تبعات أي قرار أو إجراء يتخذه. يفعل ذلك بسهولة ويسر، وكأن ذلك جزء من تركيبته، لا يحتاج لبذل الكثير من الجهد لاستشراف المستقبل. كثيرًا ما أدركت صحة آرائه ورؤاه بعد سنوات.

لم أرَ والدي يبكي إلا عندما يُذكر سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، فحينها كانت دمعته قريبة جدًا، ترى شدة التعلق والحب في عينيه واضحة جلية. كانت هناك صلة ما… وقد قال لي أحد أصدقائه إن والدي صوفي الهوى. بكى والدي يوم 26 يونيو 2020 عندما أخبرته بقرار السيد الرئيس بترقيته إلى رتبة الفريق الفخري ومنحه وشاح النيل، وقد كان في العناية المركزة فاقدًا للقدرة على الكلام. لم أعلم إن كان بكاؤه نابعًا من فرحة أم من إدراك أن هذا التكريم قد يعني قرب النهاية.

كان والدي واقعيًا يزن الأمور بميزان من ذهب ويضع الأمور في نصابها الصحيح. أذكر عندما كان وزيرًا للدولة للإنتاج الحربي، كانت تأتي إليه تقارير إيجابية جدًا عن التوجهات المختلفة فيما يخص الوزارة على مواقع التواصل الاجتماعي، فما كان منه إلا أن طلب من المسؤولين عن إعداد هذه التقارير أن لا يحجبوا التعليقات السلبية من التقرير، وقال لهم: “عايز أشوف شتيمتي.” وقد كان له ما أراد، فقد أخبرني بعد ذلك أنه بدأ يفحص كل التعليقات الهجومية والمعترضة على سياسات الوزارة والتي وصلت إلى حد السب في شخصه، لكنه لم يلق بالًا لفكرة السب، وكان كل ما يهمه أن يرى الصورة كاملة وليس مجتزأة.

كانت نصيحة والدي أن آخذ الناس على عواهنها وأن أركز على عيوبي وليس عيوب الآخرين، وأعتقد أن ممارسته لهذا الفكر أثرت في حجم علاقاته الشخصية. فالرجل كانت له شبكة ضخمة من العلاقات مع الجميع، من السياسيين إلى الأدباء، ومن الصحفيين إلى الشباب، الجميع بلا استثناء.

أما تعامله مع والدته رحمها الله فكان راقيًا، فطلباتُها مجابة ورغباتُها ملبية وراحتُها أولوية قصوى. أما زوجته الدكتورة صفاء العصار فهي أقرب الناس إليه بلا منازع، خاضا غمار الحياة معًا وواجها تحديات الزمن سويا. كانت أمي صديقته الصدوق وكاتمة أسراره، لذلك لم تحتمل فراقه وتضرعت إلى الله لتلحق به في أسرع وقت، وقد استجاب الله لها لترقد إلى جواره بعد مائة يوم فقط من وفاته. عانت الأسرة من هذه الفاجعة، ولكن كان عزاؤنا ودعاؤنا أنهما معًا في حياة البرزخ، يأنسان لبعضهما وتؤلف أرواحهما في حياة جديدة ندعو الله أن تكون خاتمتها هي جنة الخلد في أعلى عليين.

عام 2000، وبعد أن ترك العصار رئاسة هيئة التسليح وتعيينه مساعدًا لوزير الدفاع، جمع والدي الأسرة في بيتنا بالإسكندرية وقال لنا إنه من المتوقع أن يُحال إلى المعاش في خلال ستة أشهر، لكن أبت الأقدار إلا أن يستمر والدي في القوات المسلحة حتى عام 2015. وضعت الأقدار أبي في قلب الحدث وصُلب صناعة القرار على مستوى الدولة من بداية ثورة 25 يناير وحتى ثورة 30 يونيو وما تلاها. كُلف والدي بالظهور مع الإعلامية منى الشاذلي بعد ثورة 25 يناير مباشرة، وقد اتصل والدي بي وبوالدتي ظهر ذلك اليوم وطلب منا الدعاء. كان يشعر بأهمية هذا اللقاء وحساسية توقيته. كان هذا اللقاء الإعلامي هو بداية التعارف مع المواطن المصري، وأعتقد أن الرأي العام قد تقبل والدي واستراح له ووثق فيه، والقبول بيد الله.

رسم الله لوالدي طريقًا مشى فيه مستسلماً لإرادة الله مؤمنًا بالقدر خيره وشره، متسلحًا بالعلم ومرتكزًا على العمل الدؤوب، بوصلته حب الوطن وعينه على رفعة القوات المسلحة، سلوكه التواضع الجم وقناعته إنكار الذات.

رحم الله الفريق العصار فقد عاش ومات طيب الذكر .

أحمد العصار

” الشروق ” المصرية 25 بناير 2025

Read Previous

تتويج الفائزين بجائزة «بيت التّمويل الكويتي للاستدامة البيئيّة»

Read Next

وزير الصحة: السكري أحد أهم الأمراض المزمنة الأكثر شيوعا والسبب الرئيسي للعديد من الأمراض

0 0 votes
تقييم المقال
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments

Most Popular

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x