في المحن والأزمات الكبرى التي تتهدد مصير الدولة تصبح الديمقراطية ترفا لأن شياطين الخذلان والمصالح تكمن في تفاصيل الجدل الذي أسقط بيزنطة، اذ ليس من العقل أن تتلهى الدول في جدالات في وقت يقرع الخطر أبوابها، بل توظف كل امكاناتها للتصدي له ودفعه عنها؟
في الحادي عشر من سبتمبر العام 2001 لم ينتظر رئيس اكثر الدول حساسية في ما يتعلق بالديمقراطية ما يمكن ان تتمخض عنه جدالات مجلسي الشيوخ والنواب الاميركيين، اذ حزم جورج بوش الابن أمره وأعلن الحرب على الإرهاب، وأطلق يومها عبارته الشهيرة «اما معنا او ضدنا» بمعنى أنه وضع حتى القانون الدولي على الرف، وأمر قواته باجتياح أفغانستان، وفتح معسكر غوانتانامو لسجن من اعتبرته السلطات العسكرية الاميركية مقاتلا عدوا
ما في فرنسا التي تعتبر أعرق الديمقراطيات الأوروبية فقد اعلن رئيسها حال الطوارئ فور وقوع سلسلة اعتداءات ارهابية في باريس العام الماضي، رغم ان درجة الخطر اقل بكثير مما شهدته الولايات المتحدة، ايضا لم ينتظر رئيس الحكومة البريطانية ما يمكن أن يؤدي اليه الجدل النيابي بعد اعتداءات على مترو لندن، بل استعادت حكومته قانونا صدر في القرن السادس عشر لمعاقبة المتطرفين والمعتدين على امن الدولة، ولم تلتفت الى الآراء والحملات التي شنتها بعض وسائل الاعلام
هذه الدول الأكثر عراقة في الديمقراطية وضعت تلك الديمقراطية على الرف عندما كثرت الخطوب حولها، واعلنت الاحكام العرفية المكفولة دستوريا لرئيس الدولة، لأن بقاء الدولة واستقرارها لا يمكن اخضاعه لمماحكات سياسية وبرلمانية ولعبة المصالح الشخصانية التي تقوم عليها الديمقراطيات، خصوصا في دول العالم الثالث، حيث يؤخذ منها شكلها فقط وتبقى محصورة في الاتهام والشتم والتعدي على حقوق الآخرين تحت عنوان حرية الرأي والتعبير. ففي تركيا، مثلا، لم ينتظر الرئيس رجب طيب أردوغان نتيجة المناقشات البرلمانية عندما شعر ان هناك خطرا داخليا يتهدد بلاده بعودة فوضى الانقلابات العسكرية، فمارس صلاحياته من دون هوادة، وبفضل ذلك ربحت تركيا الاستقرار رغم كل الحملات السياسية التي شنتها عليه دول تتشدق بحقوق الإنسان وحرية التعبير لكنها سرعان ما تتخلى عنها حين ترى خطبا ما يتهددها
هذه هي المهمة الأساسية لأي حاكم يسعى الى حفظ بلاده، وتجنيبها الفوضى، وعندها لا يلتفت للتهويل بالشعارات، او بلاغة المتفوهين المتغزلين بحرية الرأي والتعبير، ولا تفت في عضده تهديدات يطلقونها، فهؤلاء هدفهم النهائي الهيمنة على مفاصل الدولة، بل الامساك بالحكم طوال العقود الماضية دفعت بعض الدول العربية اثمانا باهظة لديكور الديمقراطية الذي حافظت عليه فيما كانت أعمدة البيت تهدم ببطء، فكانت الفرقة والتقاتل والفوضى والأزمات الاقتصادية، وصولا الى الحروب الأهلية، كما هي حال لبنان والعراق وسورية وليبيا والصومال.
اليوم، تشتد العواصف والأعاصير حول دول «مجلس التعاون» الخليجي، وثمة في الداخل من يرون أنها فرصتهم في الانقضاض على السلطة، ولذلك إذا كان بعضها قد حزم أمره منذ البدء واقام اسوار حماية حول بلاده عبر اجراءات جريئة اتخذها، فإن استكمال عملية الحماية تفرض على قادة الخليج التنبه أكثر فأكثر الى الأخطار، لأن الرهان على ان المزيد من الديمقراطية يمنع الخطوب ويبعد الأخطار او يشكل سدا يقي منها هو رهان اثبتت التجارب انه خاسر، خصوصا حين لا يخفي اصحاب الاجندات الخبيثة مخططاتهم، ولهذا فإن حصر أبو السلطات، في اي دولة، الأمر بيده عبر استخدام صلاحياته الدستورية الكاملة هو السبيل الوحيد الى الخروج من مأزق مصيري قد يكون ثمنه انهيار الدولة، وحينها لا تبقى ديمقراطية ولا حرية رأي، ولا حتى دساتير يتمترس خلفها اليوم من سعوا إلى رمي بلادهم في الهاوية.