• نوفمبر 23, 2024 - 10:26 صباحًا

هل تصحو يا وطن؟

إن ما مرت به «مصر» منذ عام 2011 حتى الآن- بكل ما فيه من معاناة وعذابات وصعوبات ومتاعب- هو مخاض لميلاد شعب جديد، فالأمم العظيمة تصنعها الآلام الكبيرة، وإذا كانت معاناة المصريين في هذه المرحلة قد اشتدت فذلك لأنهم يواجهون الحقائق كما هي دون تجميل أو تسويف أو إرجاء، كما أن «مصر» قد صحَتْ من سباتها لتكتشف أنها قد أضاعت فرصا كثيرة في ماضيها القريب، ولم تتمكن من الإمساك بتلابيب التقدم الحقيقى، من خلال تعليم عصرى وبحث علمي مكثف، كان يمكن لهما أن يشدا قاطرة الوطن نحو آفاق يستحقها ومكانة تليق به وبتاريخه الحضاري وتراثه العريق، لقد طافت بذهني أفكار كثيرة وعبرت أفق خيالي أحلام كبيرة وأنا أستمع إلى كلمة بابا الفاتيكان «فرنسيس»، وهو يتحدث في احتفال رئاسة الجمهورية إلى صفوة من رجال الدين المسيحي والإسلامي والشخصيات العامة، وفي حضور الرئيس «السيسي»، الذي ألقى خطابا متميزا في هذه المناسبة، وعندما دخل الإمام الأكبر ـ قبيل دخول الرئيس و«بابا الفاتيكان» ـ ضجت القاعة بالتصفيق الحاد وقوفا احتراما للشيخ الجليل، أستاذ الفلسفة الإسلامية، عَفّ اللسان، هادئ الطبع، والذي يسعى إلى تصويب الخطاب الديني وتنقية الفقه الإسلامى من شوائب علقت به، والشيخ الصوفي يبذل في ذلك جهدا ضخما في مواجهة معارضة متشددة في كل اتجاه، وإعلام متجاوز بغير مبرر!
وليعلم هؤلاء وأولئك أن الهجوم على «الأزهر الشريف» وشيخه «الطيب» هو ضرب غير مباشر في أعمدة الهوية المصرية، ومحاولة لتحطيم أحد العمد الرئيسة في التكوين الثقافي والاجتماعي للشعب المصري، فـ«الأزهر» و«الكنيسة» يمثلان معا ركيزتين لهوية الوطن والتعبير عن شخصيته التاريخية وقواه الناعمة على مر العصور، وكذلك عندما بدأ «بابا الفاتيكان» يتحدث وهو يشير إلى استقبال مصر للاجئين عبر التاريخ بدءا من اللاجئ الأول الطفل «يسوع» وأمه «العذراء مريم» و«يوسف النجار»، في الرحلة المقدسة التي اخترقت «الدلتا» و«الوادي»، وباركت «مصر»، حتى ذكرها الكتاب المقدس (مبارك شعبي مصر)، وقد استطرد «البابا فرنسيس»، متحدثا عن اختيار الرب لأرض «مصر» الطيبة ليخاطب «موسى الكليم» من «طور سيناء» حتى استقر الإسلام الحنيف على أرضها، حيث اختلط سكانها من كل الديانات في سيمفونية رائعة تعزف للإنسان ـ وله وحده ـ في كل زمان ومكان.
ولقد اقشعرّ بدني و«البابا» المتفتح المستنير يشير إلى «مصر» بعبارة «أم الدنيا» ويكررها باقتناع وإيمان ووعي، ثم كانت الخاتمة مجاملة رائعة لمصر ورئيسها عندما أنهى خطابه بقوله: «تحيا مصر»، ولقد تابعت كلمات الإمام الأكبر في المؤتمر الكبير، الذي أقامه «الأزهر الشريف» في توقيت ذكي لكي يكون «بابا الفاتيكان» أحد حضوره وشهوده، ولقد نزلت كلمات الإمام الأكبر بردا وسلاما على الإنسانية المعذبة والجماعات المقهورة بفعل الاستبداد والفساد والإرهاب.
أما البابا «تواضروس الثاني» فأنا أظنه هدية الرب لشعب «مصر» في هذه الظروف، ولا أدري كيف كان يمكن أن يتصرف أي بديل له، فالرجل وطني حتى النخاع، مسيحى مخلص «طوباوي» نقي، وهو حبر جليل تحمّل معاناة بغير حدود وآلاما قاسية وتفجيرات إرهابية للكنائس وذبحا للأقباط على يد مجرمي «داعش» في «ليبيا»، بل مطاردة لهم في «شمال سيناء»، ولكنه أدرك بحكمته أن المستهدف هو الوطن كله، مسلميه ومسيحييه، فطوفان الغدر لا يفرق بين مصرى وآخر، لأن الكنانة الصامدة هي غُصَّة في حلق الكثيرين داخل المنطقة وخارجها، إنه البابا الذى قال عبارته الخالدة: «وطن بلا كنائس خير من كنائس بلا وطن»، لقد كان هذا الأسبوع رسالة بامتياز إلى الشعب المصري لعله يستيقظ في صحوة لا غفوة بعدها ليعمل في جد، ويبتكر برؤية، ويشيد على أرضه دعائم راسخة لمستقبل أفضل، فإذا كانت «مصر» هي أرض الديانات والثقافات والحضارات فهي أيضا أرض العبقرية الكامنة والذكاء الموروث والفطنة الطبيعية والفطرة السوية، فليمضِ التعليم العصرى والثقافة متعددة الأبعاد والبحث العلمي الواعد على طريق يواكب مسيرة التشييد والبناء في الدلتا والوادي والصحراء، فالجندي المصري الذي يقاتل الإرهاب على أرضه المقدسة في «سيناء» إنما هو امتداد طبيعي لجندي «عين جالوت» و«حطين»، وابن مباشر لمَن أغرقوا المدمرة «إيلات» ومَن عبروا قناة السويس قتالا في «حرب التحرير» عام 1973. أيها السادة، ينبغي ألا ننسى تاريخنا، كما يجب ألا نتباكى على ما فاتنا، إذ لابد من حشد وطني يبدأ من الطفولة إلى الشيخوخة، ويدفع بالشباب نحو الطريق الذي اخترناه رغم صعوبته ومرارته ومعاناته.. ألم أقل لك يا وطن يجب أن تصحو؟!

Read Previous

السيسي والصباح … لقاء الزعامة والسياسة

Read Next

النوخذة بوفيصل .. سيرة عطرة

0 0 votes
تقييم المقال
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

Most Popular

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x