مثل أبناء المنطقة وغيرهم في هذا الكوكب، سعدت كثيراً بما تم تحقيقه في قمة «العلا» في المملكة العربية السعودية، وبإدارة متوثبة جسّدها الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد في المملكة العربية السعودية، التي، كما عرفناها، لا ترضى بالجمود ولا تطيق الابتعاد وتحرص على الألفة وتهيئ الرافعة التي تأخذ المجلس ليتجاوز المطبات.
ما حدث منذ ثلاث سنوات كان حالة نجمت من ضعف في قراءة النوايا، ومن تصور مبالغ فيه عن مفهوم السيادة، وانتهت بفضل جهود الخير الجماعية..
لم تنحصر الأفراح في الحضن الخليجي، بل اتسعت المباهج إلى عالم العرب وإلى جميع الأطراف في الأسرة العالمية، وأبدي بعض الملاحظات: أولاً: دخل المجلس في فصل جديد هندسته حكمة حملها القياديون الذين اسهموا في تحويل الحلم الخليجي إلى واقع تسيد الحوض الخليجي منذ عام 1981، نحت عنوانها باسم «مجلس التعاون»..
كان المرحوم الشيخ صباح، الذي لم يسعفه القدر ليرى آخر مراحل الثمار في مساعيه التي بدأت عام 2017..
تجول المرحوم الشيخ صباح، في عام 1980، في العواصم العربية، ليشرح المشروع الخليجي القادم، نقل المفهوم الخليجي للمشروع، ودبلوماسية هذا المشروع إلى بغداد ودمشق والقاهرة والأردن، وعواصم أوروبا، واختتمها في موسكو في أبريل 1981، وكنت شخصياً بمعيته، حضرت لقاءه مع وزير خارجية الاتحاد السوفيتي «جروميكو»، الذي قال للشيخ صباح إذا كان هذا المشروع سيتبنى الدبلوماسية التي أنت تقودها فالاتحاد السوفيتي يؤيده ويدعمه، ورجعنا سعداء باكتمال المأمورية التاريخية التي حملها الشيخ صباح الأحمد..
كنت أتردد على ديوان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، عندما كان أميراً للرياض، تتنوع مجالسه فكرياً، من رجال الدين إلى كتاب وإعلاميين من لبنان ومصر والعراق، كانت مجالسه ندوات وأحاديثه تعليقات معبّرة عن مرئيات الحكم في المملكة العربية السعودية، وكان من المبتهجين بمسيرة المجلس، وأعطى للمجلس كثيراً من نصائحه، ومن جهوده في بناء المقر الذي يشغله المجلس حالياً، كان يثري المجلس بتوجيهاته ويسهل أموره بالتسهيلات اللوجستيكية.
انسابت حكمة الملك فهد إلى كيان الملك سلمان في تواضعه وتسامحه ونظرته لشروط المستقبل..
رأيت فيه ما كنت ألمسه من الملك فهد، واستغربت عندما وصلتنا أخبار المقاطعة، فليس من طباع هيئة الحكم في الرياض مقاطعات أو محاصرات، فهم على علم بمعاني استقرار منطقة الخليج للمجتمع العالمي..
ثانياً: لم يغب عن ضمير قادة مجلس التعاون حقائق الاستثنائية الجغرافية للمنطقة، ومعانيها لاستقرار العالم، ودورها في استمرار الازدهار العالمي، وأهميتها في توفير اليقين للأمن الاقتصادي..
دول المجلس تملك خزائن النفط الذي لا مفر من توفيره لكي يستمر العالم في هدوئه وفي متانة صحته واستتباب السلام فيه.
والأهم من ذلك أن يتوافر النفط في أسواق العالم بسعر مقبول لا يهدم قواعد الاقتصاد العالمي، وما يزال هذا العالم مرتاحاً من دبلوماسية النفط الخليجية، ذات المصداقية التي لا تتعرض إلى التدخلات الراديكالية.
عشنا عامي 1973 ـ 1974 في الأمم المتحدة أجواء متوترة على إثر الحظر على الولايات المتحدة، وجاء أبومدين، زعيم الجزائر، مقترحاً النظام العالمي الجديد، وأهم ما سمعته منه تقديره لحكام الخليج، الذين حركتهم النخوة العربية بفرض الحظر، ويثني على حكام أبوظبي.
ثالثاً: عاصرت الكثير من الاندفاع خلال مداولات المجلس، في المبالغة بمعاني السيادة، وشعرت بأن في دول المجلس هناك حساسية سيادية في عالم قائم على الاعتماد المتبادل Inter-dependence، صيغة المجلس تعاونية تكاملية ليس فيها فرض أو إجبار، وإنما آلياتها الاقتناع الجماعي، وليس فيها مجال للمبالغة في تفسيرات السيادة.
ولم أفاجأ بهذا النهج، فقد انتظمت دول الخليج كأعضاء في الهيئة العالمية للأمم في السبعينيات، والدولة الوحيدة التي وقعت على ميثاق الأمم المتحدة هي المملكة العربية السعودية، والكويت في عام 1963، والباقي في السبعينيات.
لا توجد في العمل الجماعي سيادة مطلقة، لم يتدخل مجلس التعاون في الشأن الداخلي، مع حرية لممارسة العمل الدبلوماسي المستقل، لكن وفق شروط ألا يتسبب ذلك في خلق تأثيرات تضر بالمسيرة أو بمصالح الدول الأعضاء.
كان هذا المفهوم هو القاعدة التي بنيت عليها الدبلوماسية الخليجية، سواء في النفط أو في العلاقات مع دول العالم.
رابعاً: لم أكن سعيداً في جانبين، لم يكن حصادهما وفق التوقعات، وأدرك ضخامة العقبات في التعاون الدفاعي، الذي لم يحقق الضرورات في بناء جيش خليجي موحد، وإنما ظل الخيار الأمني عبر البناء العسكري الذاتي لكل دولة في إطار تنسيقي تشرف عليه الدائرة العسكرية في الأمانة العامة عبر تواصلها مع القوات المسلحة لكل دولة..
كانت الحاجة إلى شيء آخر أراده القادة في تكليف السلطان قابوس، سلطان عُمان، للإشراف على لجنة تضع استراتيجية دفاعية شاملة، وأكملت اللجنة عملها خلال سنة يتواجد فيها ممثل لكل دولة، وكنت أحضر اجتماعاتها في مسقط برئاسة السلطان الذي أعد كراساً متكاملاً..
وظلت هذه الدراسة مرجعية للجنة العسكرية المنسقة، لكن الدول رأت أن يتم الاستهداء بها على أمل أن يتحقق مضمونها عبر التطور في العلاقات الدفاعية..
لم يكن التعاون الاقتصادي مرضياً، سواء في حجم التجارة البينية أو في الانطلاق لممارسة المهن والحرف، أو في الانسياب في النقل، ولذلك جاء في البيان الختامي ضرورة استكمال متطلبات الاتحاد الجمركي والسوق الخليجية المشتركة، بما في ذلك منح المواطنين حرية العمل والتنقل والاستثمار والمساواة في تلقي التعليم والرعاية الصحية وتوظيف الاستثمار الخليجي.. وتم تكليف الأمانة العامة بالتنسيق مع الدول..
خامساً: لاحظت في البيان الختامي قرار القادة التوجه لمواصلة جهود الانتقال من مرحلة التعاون إلى مرحلة الاتحاد، وتكليف المجلس الوزاري ورئيس الهيئة المتخصصة باستكمال الإجراءات اللازمة لذلك، هنا أود أن أقدم رأياً من وليد التجارب بأن تبقى صيغة مجلس التعاون كما هي التعاون والتكامل والتنسيق وصولاً لوحدتها، فما زالت قبضة السيادة على دبلوماسية الدول حادة في منهجيتها، ولم تستجب لمساعي التطعيم التي جاءت في مبادرة الملك عبدالله بن عبدالعزيز بتحويل التعاون إلى صيغة اتحاد، وجلسنا سنة نتصارع من أجل خلع حدة أشواك السيادة وأقلمة الأجواء الخليجية إلى مفهوم الاتحاد، ولم ننجح، فخصوبة التربة الخليجية ما زالت غير مهيأة لهذه النقلة.
كما أنصح بالحفاظ على الاقتناع الوطني بجدوى مجلس التعاون، هو منبع قوته، وأن الأجواء نحو الاتحاد ستظهر عندما يتوافر الاقتناع بجاذبية الاتحاد.
سادساً: يتبقى الأمل بأن عبور مجلس التعاون لهذا المطب وخروجه متعافياً ليواصل حيويته نحو الانطلاق لتعويض ما خسره بسبب توقف المسيرة، وأن يكون العبور من هذا المطب هو نهاية التجارب في التباينات.
جاءت كلمة القادة جميعها تتحدث عن مستقبل فيه إنجاز وبهجة، وفيه تصميم وعزم، وفيه تأكيد على الحفاظ على التلقائية المتوارثة في الروابط التاريخية بين أبناء الخليج، حكاماً ومجتمعات، شعوباً ودولاً، وتناغمهم مع المجتمعات العربية والإسلامية ومع جميع أطراف الأسرة العالمية..
وتبقى صيغة المجلس المحببة للنفوس كما يردد الملك فهد.
عبدالله بشارة
القبس 10 يناير 2021