تحتكر الانتخابات في العراق اهتمامات كويتية خاصة، لا تماثلها في المتابعة والتحليل والبحث عن الخلفيات ورصد التوجهات أية ملفات تخص دول الإقليم، فالاستثنائية التي تحظى بها تطورات العراق السياسية جاءت من إفرازات جريمة الغزو ومن الغلاظة البشعة التي تسيدت العلاقات الكويتية – العراقية منذ تولي صدام حسين السلطة، وتمثلت في وضوح الأطماع وتحقيق التوسع الجغرافي مع رسم موقع تتحول فيه الكويت إلى دولة بالاسم وملحق حقيقي للنظام البعثي الصدامي.
وتتميز هذه المتابعة بالشوق الكويتي العالي لينعم العراق باستقرار قائم على التوافق الشعبي والشراكة الجامعة، ضمن نظام دستوري ديموقراطي يأخذ العراق إلى فصل السكينة والاطمئنان القائم على التراضي والانفتاح والترابط مع المجتمع العالمي، ملتزماً بقواعد السلوك الدولي التي أسستها الإرادة العالمية.
وتصاحب هذا الأمل الكويتي رغبة قوية بأن تتواجد الكويت في الصف الأول الذي يرسم إعادة بناء العراق، معتمدة على خبرة كسبتها عبر نشاط صناديقها، وعلى قناعة سياسية راسخة بأن استقرار العراق وتطوره دعامة جوهرية لترسيخ استقرار الكويت وحشد طاقات شعبها للانطلاق نحو البناء والتنمية.
كان الشيخ صباح الأحمد مسكوناً بالرغبة الجامحة للمشاركة في بناء العراق، وكان له منظور سياسي إستراتيجي تلتقي فيه دول الخليج مع العراق الديموقراطي المستنير، ويخرج من هذا التفاهم القوة المؤثرة في قيادة الدبلوماسية العربية في علاقاتها مع العالم، وفي حقول التنمية والتطوير الاقتصادي والاجتماعي.
كانت آماله ضخمة وأشواقه جادة وتفاؤله متين ومساعيه لا تتوقف في التواصل مع حكومات العراق الجديدة منذ إقرار الدستور وفتح صفحات الانفتاح السياسي الديموقراطي، وكان يحرص على علاقات مميزة مع رؤساء الحكومات الذين تولوا السلطة، وكان أسرع القيادات العربية تواجداً في العراق وأشدهم عزماً على تنفيذ مساهمات الكويت.
كان غياب الاستقرار وانعدام التواصل وكثرة التبدلات عائقاً معطلاً ومخرباً للتفاهمات التي تحققت عبر دبلوماسية الشيخ صباح، الذي انتقل إلى رحمة الله من دون تنفيذ أحلامه في العراق الجديد، لكنه ترك وراءه الهمة بكل ضخامتها للقيادة التي خلفته، مصحوبة بالقناعة وبحجم الحماس الذي حمله الشيخ صباح.
وهنا نشير إلى مسؤولية الحكم الجديد الذي تولد من الانتخابات الأخيرة التي برزت فيها ثلاث قوى، الصدريون، والأكراد، والسنّة، وانحسر فيها نفوذ إيران، الأمر الذي يستدعي تبني الحكومة الجديدة نهجاً لمعالجة العلاقات الإيرانية – العراقية وفق إطار يطمئن الطرفين، فإذا كانت إيران تتخوف من تدخلات أميركية وتسللات إرهابية، فحكومة العراق أحرص منها على تطويق التدخلات وسد منابع الإرهاب، فلا يمكن تجاهل النفوذ الذي مارسته إيران عبر تواجدها ومناصريها في العراق، ولا يمكن لها فرضه بالقوة إذا ما انحسرت الإرادة العراقية عنه.
فإذا كانت لإيران شرعية في تأمين سلامتها من التدخلات، فإن أحلام الكويت في العراق لا تختلف عن أمنيات المواطن العراقي البسيط في عراق هادئ ومسالم ومتعايش مع جيرانه وملتزم بالمواثيق الدولية ومع قواعد العمل العربي، كما جاءت في ميثاق الجامعة العربية، ومثمن لأصول حسن الجوار ومقتنع ببناء شراكة خليجية – عراقية تنموية إستراتيجية.
ما يهمنا الآن أن يسعى العراق ليحتضن جميع أبنائه، ويكون لهم جميعاً، سنّة وشيعة، عرباً وأكراداً، عبر نظام دستوري مستقر، ومهما قيل عن الدستور الحالي بتفاصيله وتوزيعاته وفق الأعراق والطوائف المتواجدة، فإن ميزاته الحالية تتمثل في مرجعيته الجامعة وفي تأمين فصول الهدوء، يتحاور فيها أبناء العراق حول التحسينات المستقبلية وحول المتاعب التي برزت من التطبيق العملي لبنود الدستور.
منذ استقلال العراق عام 1920، وانضمامه للمنظمة العالمية عام 1932، حتى عام 1958، وبعدها إلى 2003، عند سقوط صدام حسين، لم يشهد العراق قاعدة المساواة بين طوائفه، فقد تم احتكار السلطة في يد السنة الملكية والسنة الثورية، ثم البعثية، وتحملت الطائفة الشيعية متاعب احتكار السلطة وغياب العدالة مع شكوك حول توجهاتها وإخلاصها للنظام، وكان نصيب الشعب الكردي لجوء نظام صدام إلى الأسلحة الكيماوية التي أيضاً كان الشيعة ضحيتها عند انطلاق ثورتهم 1991، ويستخلص شعب العراق قسوة الدروس من هذه التجارب، فلا يمكن ترك أي احتمال لعودة البعثية العنصرية ولا فرصة لأي طرف لاحتكار السلطة والتسلط على مصير العراق.
يحمل العراق الجديد العزم القوي لمنع أي طرف من الاحتكار للسلطة ومنع تسيد الأيديولوجيات مع الانطلاق بالعراق المتمدن المستنير بالتعددية، كل ذلك يستوجب دخول العراق في بيئة التنوير والتثقيف الشعبي وعلى القيادات السياسية والأحزاب والسلطات الإقليمية في الشمال والجنوب حملات ضخ الواقع العراقي في الإعلام والمدارس والبرامج التعددية مستندة إلى المبادئ التي جسدها دستور العراق.
تعب شعب العراق من مغامرات الماضي وتولدت من مغامرات الأحزاب والضباط أحداث ووقائع دمرت العراق وعذبت شعبه وعطلت حيويته وعرضته للعذاب، فلم ينج بعض طوائفه من تشويهات الكيماوي..
هناك رسالة تاريخية تولدت من الانتخابات الأخيرة وهي أن يطوي شعب العراق تجارب الماضي ويتوجه إلى المستقبل بجماعيته، بعزم على استحالة عودة فصول الماضي المدمرة، والانطلاق لبناء مستقبل مبني على المساواة والعدالة والمرجعية الدستورية والإرادة الشعبية وسيادة القانون.
منذ قرون عديدة لم يتمتع شعب العراق بحرية اختيار حكامه كما شهدناها بالأمس، فلم يكن له رأي لا مع العباسيين ولا مع حكم العثمانيين، ومن بعدهم البريطانيون، وحتى في زمن شريكهم الملك فيصل لم ينعم الشعب بحق المساواة، لكن أكبر معاناة العراقيين القاسية كانت مع المغامرين العسكريين أنصاف المتعلمين، وبعدهم البعثيون وبلاوي صدام حسين ودمويته ومجازره.
تأكدت حقائق الإرادة الوطنية العراقية مع إعلان نتائج الانتخابات التي عبرت عن إحساس وطني عراقي برفض الهيمنة وإبراز القرار العراقي المستقل وترسيخ الهوية المتوارثة، وتبرز هنا مسؤولية الشعب للحفاظ على هذا الانتصار العظيم بالتعالي ورفض الميول الانفصالية العرقية أو الطائفية، لأن مسؤولية الشعب صون التجربة وترسيخ قواعدها والبناء على مبدأ المساواة وسيادة القانون وفصل السلطات والتماسك الداخلي لصد نزعات الجوار وطموحاته بممارسة الهيمنة وتأسيس نفوذ له داخل العراق، فقد تخلص العراق من قهر المستبدين وعنف السفاحين، وطوى ظلام الماضي، فلا مفر من صرخة عراقية تعبر أجواء الإقليم برفض استذكار الماضي العبثي.
وفي الشأن الخارجي نتوقع أن تكون إطلالات العراق على الخليج إيجابية وبناءة تتميز بروح التآخي، فتتولد علاقات تجارية تنموية وانسجامات سياسية ومشاورات إقليمية متواصلة، ليطوي نهائياً فصولاً كانت الشكوك العميقة تتسيدها، والحذر العالي يرافقها والخوف من المجهول يطاردها، وسيجد العراق من الخليجيين الترحيب الذي كان واختفى مع تسلطات صدام حسين وقراراته المدمرة، كما سجّلها التاريخ في جريمة غزو الكويت وبشاعة تبريراتها..
آخر ملاحظاتي، لا أستبعد مفاجآت تتولد منها تبدلات، فالعراق تربة ينبت فيها المألوف وغير المألوف، الغريب والمفاجئ.
عبدالله بشارة
a.bishara@alqabas.com.kw
( القبس ) 17 أكتوبر 2021