لم يترك فقيد الكويت الكبير جاسم الخرافي خلفه فقط ميراثا من العمل السياسي الزاخر والحافل بكل ما يدعو إلى الاعتزاز والفخر، بل ترك أيضا ميراثا من القيم النبيلة والأخلاق الرفيعة، وظل حتى آخر لحظة من حياته رافضا بشدة مقولة يروج لها البعض تدعي أن «السياسة بلا أخلاق»، وبدا دوما منحازا تمام الانحياز إلى المدرسة الأخرى التي ترى أن السياسة أساسها الأخلاق، وأن هذه الأخيرة إذا انتُزعت منها، فإنها تتحول إلى جحيم يجلب على ممارسيها والمتأثرين بها الويل والخراب.
حتى عندما كان يشعر بأنه يتعرض لظلم ما من قبل البعض، فإنه لم يكن يتخلى عن مبادئه وأخلاقياته، مصرا على أن يحافظ على «شرف الخصومة»، ورافضا أن يضرب «تحت الحزام»، أو ينال من خصومه بطرق ملتوية أو غير قانونية… أقصى ما كان يلجأ إليه هو مقاضاتهم، والاحتكام في النهاية إلى قضاء منصف ونزيه، يعطي كل ذي حق حقه.
هذه المبادئ والقيم التي تمسك بها الخرافي حكمت عمله وأداءه وزيرا ونائبا ورئيسا لمجلس الأمة… ومنذ أن تولى الرئاسة تجلت قدراته الكبيرة كرجل دولة من طراز رفيع، فقد كان المجلس يضم نوابا كثيرين يختلفون معه سياسيا، لكنه كان مدركا تماما أنه فور أن فاز بالمنصب، أصبح رئيسا للجميع، سواء من أعطوه أصواتهم أو من صوتوا لمنافسه، وأن عليه أن يعدل بينهم في معاملته، وألا يجور على حق أي منهم في ممارسة حقوقه الدستورية كاملة… ونحسب أن أعضاء المجلس الذين زاملوه من كل التيارات السياسية والمستقلين أيضا، قد شهدوا له في حياته وبعد رحيله بأنه أدار المجلس بحيادية منقطعة النظير، وأكثر من ذلك فقد كان قادرا، بما يتمتع به من حكمة وبعد نظر، على أن يحتوي الكثير من الأزمات، سواء بين النواب أنفسهم، أو بين المجلس والحكومة… وفي ظل أصعب المواقف لم تفارقه ابتسامته المعهودة، ولم يتخلّ يوما عن تفاؤله بأن القادم أبهى وأجمل.
ولأنه رجل لا تحده المواقع، ولا تؤطره المناصب، فإنه لم يفقد قط حماسه لخدمة الكويت، حتى بعد أن ترك رئاسة المجلس والحياة النيابية كلها، وعندما كان يحضر أي مناسبة في سفارة أو غيرها، ترى الصحافيين ومراسلي الفضائيات ووكالات الأنباء يتحلقون حوله، كأنه لم يغادر يوما موقعه الرئاسي، يسألونه عن رؤيته للأوضاع السياسية، وتوقعاته المستقبلية، وظل صانعا للمانشيت الصحافي حتى بعد مغادرته رئاسة المنصة بسنوات.
رحمك الله يا أبا عبدالمحسن، فلقد أخلصت لوطنك، وأحببت الكويت فأحبتك، وخرجت عن بكرة أبيها تودعك، وتسأل الله سبحانه أن يجزيك الخير كله عما قدمت لها، وأن يلهم الأجيال الحالية والقادمة أن تسير على دربك، وتستلهم خطاك، وتتعلم منك النبل والرفعة في العمل السياسي، والتسامح والعفو حتى مع أشد الخصوم، فكلنا أبناء الكويت وأحباؤها.