• نوفمبر 21, 2024 - 3:45 مساءً

عودةٌ إلى القيم وعفوٌ عند المقدرة

في رحاب العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك، نتيقّن كم نحن بحاجة إلى إسقاط دعوات الخير والمحبة والسلام والتعقّل والتبصّر على ما نعيشه من أزمات، وإعلاء صوت الحكمة في مُواجهة هذا «الهذيان السياسي» المحموم إن صحّ التعبير. وكم هي ضروريّة لواقعنا دعوات مثل: «اللهمّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كلّ خير»… وكم هي حاجتنا أكثر إلى تكرار: «اللهمّ إنا نسألك من الخير كُلّه عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.. ونعوذ بك من الشرّ كُلّه عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم».

هذه الدعوات تحمل بالتوازي مع واقعنا السياسي كلمات مثل الإصلاح والخير والتقدّم والنأي بالمواقف عن الشرّ… وبالتّأكيد نحتاج إلى الاعتصام بها وترجمتها واقعاً ملموساً وممارسة واضحة.

تعوّد الكويتيّون منذ عقود على الشورى والحريات والديموقراطية والخلاف والاختلاف، لكنهم لم يعهدوا هذا الانحراف الخطير في أساليب التعبير التي أخذت منحى شخصياً وتخلّلتها مُفردات يعفّ اللسان عن ذكرها في هذه الأيام المباركة. جزء كبير من الطبقة السياسية الحالية لا يعرف الفارق بين التعبير عن الخلاف السياسي وبين الشتيمة، بين الانتقاد وبين الإسفاف، بين تسجيل موقف وبين نسف كلّ القيم الأخلاقية في الكلام… قاموس جديد يُراد أن يُفرض على الكويتيين من قِبل من يفترض أنهم نماذج يحتذى بها للجيل الجديد في العمل السياسي. عبارات نارية تتعرّض للأعراض والأشخاص لا للمواقف. جداول من سقط اللغة بدل برامج وطنيّة تنموية شاملة، وكل ذلك يستدرج انحطاطاً مُقابلاً لمُجاراة المشهد السياسي.

هكذا أصبحت الحياة السياسيّة الكويتيّة، ولنكن صريحين وصادقين فإن الكثير من الشخصيات التي تخوض الشأن السياسي وبعض المُتلقّين من الجمهور صاروا يستمرئون هذا النهج ويترقّبونه وينشرونه في مُختلف وسائل التسويق الباحثة عن الإثارة.

ولنكن صريحين أكثر، هذا البحر، أي بحر التعبير الساقط عند الخلاف والاختلاف، يسبح فيه سياسيّون وبرلمانيّون وناشطون وحتى من داخل أبناء الأسرة الحاكمة، ولا خلاص للمشهد السياسي والتنموي الكويتي من التراجع المُستمرّ والتخلّف المُتراكم سوى بإعادة الاعتبار للقِيم الأخلاقيّة وثقافة الاختلاف ومبادئ الحوار الحضاري للوصول إلى اتفاقات على البرامج الوطنية الكفيلة بنقل الكويت من مرحلة التراجع إلى الثبات فالتقدّم مُجدّداً… ولا ننسى أننا من مدرسة دينيّة إنسانيّة عظيمة تجعل مخافة الله هدف أيّ تحرّك أو سلوك أو كلمة: «لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إنّي أخاف الله ربّ العالمين».

وهنا دعوة صريحة إلى عقلاء الكويت وهم كُثر، من داخل أسرة الحكم ومن خارجها، بأن يتدخّلوا لوضع حدّ لهذا الانفلات في المواقف والعودة إلى الثوابت والقيم. وكم نحن في حاجة إلى تذكّر خِطاب افتتاح مجلس الأمة الأول الذي ألقاه المغفور له الشيخ عبد الله السالم الصباح حين وجد في الأبيات التالية أفضل رسم لخريطة الطريق: «تُهدى الأمور لأهل الرأي إن صلحت وإن تولتْ فبالأشرار تنقاد لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جُهالهم سادوا».

العقلاء يُدركون بالطبع أنّ هذه الخلافات وأساليبها الدّخيلة على مجتمعنا صارت لُبّ المشكلة في الكويت، ولذلك فهم مدعوّون إلى التّحرك ورفع الصوت وتهدئة النفوس، ومُطالبون بجمع كلّ الذين لديهم خصومات تحوّلت إلى مُعسكرات مُتناحرة مُنقسمة، ومُطالبون بعودة الأمور إلى ثوابتها بالإرث التاريخي الذي جُبلنا عليه وبنهج الأوّلين، ومُطالبون بإصلاح ذات البين ليكون المُتخاصمون مُختلفين سياسيّاً وعلى قلب واحد في ما عدا ذلك… فهل يجوز مثلاً ونحن في أيام مفترجة، ألّا يتصافح شخصان مُختلفان في السياسة بعد الصلاة في مسجد واحد؟ ولا يتجاذبان أطراف الحديث الاجتماعي؟ وبما أن تهدئة النفوس، ونبذ الخطاب الانقسامي الحادّ واللغة الساقطة، واعتماد الحوار والتوافق مدخلاً لكل الحلول، تساهم في تثبيت خطوات الانفراج والتهدئة، نتمنّى عفواً أميرياً كريماً عن جميع المحكومين بتهم سياسيّة ليعودوا من الخارج إلى وطنهم الكويت. على أن تكون هذه العودة شاملة ووفق معايير واضحة وبلا استثناءات. حُكّام الكويت جُبلوا على مقولة العفو عند المقدرة وهم من امتلكوا شجاعة الصفح ﻭﻋﻠّﻤوا الآخرين أﻥ ﺍﻟﺘﺴﺎﻣﺢ «أﻛﺒﺮ ﻣﺮﺍﺗﺐ ﺍﻟﻘﻮﺓ».

عودة المحكومين سياسياً إلى الكويت بموجب العفو الكريم هي عودة الفرحة لأهاليهم، وهؤلاء جميعاً دفعوا ثمناً نتيجة مواقفهم لكن الكويت التي تسامحت مع الجميع يُمكنها بل يجب أن تكون أولوية التسامح لديها مع أبنائها… الكويت بيتهم والقانون هو من يحكم مُستقبلاً أيّ خطأ أو زلّة. يقول الله جل جلاله في كتابه الكريم: «فمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ».

في العشر الأواخر من هذا الشهر الفضيل نستلهم قول النبي محمد عليه الصلاة والسلام حين سألته السيدة عائشة رضي الله عنها: «يا رسول الله أرأيت إن علمت أيّ ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟»، فقال: «قولي اللهم إنّكَ عفوٌ تُحب العفو فاعف عني».

بهداية من نفحات الله وتوصيات رسوله الكريم، وبحكمة قيادتنا وتدخّل عقلاء الكويت، وبصحوة ضمير من مُتسيّدي المشهد السياسي في السلطتين وتغليب الشأن العام على المصالح الخاصة والآنية، وببرنامج إصلاحي مُتقدّم، وبجعل التنمية أولوية، يُمكن أن نرى النور في نهاية النفق… «وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ». صدق الله العظيم.

جاسم مرزوق بودي

الراي 12 ابريل 2023

Read Previous

عماد بو خمسين: «العربية العقارية» نمو إيجابي… أداءً ونتائج

Read Next

أكاديمية «ساندهيرست» العسكرية البريطانية تكرم طالبين كويتيين بحضور الملك تشارلز الثالث

0 0 votes
تقييم المقال
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

Most Popular

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x