أقف متسائلاً عن جمال الانسجام بين اسم الشخص وسلوكه، وأجد في سفير العراق لدى الكويت، سعادة السفير المنهل الصافي ما يمثل الانسجام بين الاسم ومعانيه وبين طباعه وسلوكياته والغريزة التي تشكل ميوله، وكيف استلهم والداه اسماً يتفاعل مع مستقبله في القراءة المتواصلة واستخلاص أجمل ما في حصيلتها لتبقى كنزاً يشكل هويته ويتكاثر في هضم المعرفة والعلم، ويعلق السفير المنهل الصافي خلال حفل أقامه في بيت العراقيين في السفارة بأن رئيس العراق عبداللطيف رشيد وجه دعوة إلى صاحب السمو لزيارة العراق الذي وعد بتلبيتها هذه السنة، ويواصل التعليق بأن الكويت بلد شقيق وجار وعلاقتنا ممتازة ونتطور نحو الأفضل، فهناك أمور طيبة في المستقبل القريب، وقد بدأ حديثه معلناً أن اللجنة الثنائية المشتركة الكويتية والعراقية على المستوى الوزاري ستجتمع في الكويت الأسبوع الأول من مايو، موضحاً أنها لجنة فنية قانونية خاصة تعنى بمسألة ترسيم الحدود البحرية لما بعد العلامة 162، وقد أسعدتني كلمات السفير المنهل ومعانيها الصافية في مؤشرات مستقبلية تنقل العلاقات بين البلدين إلى فضاء صافي النوايا والمودة.
لم يخلُ تاريخ العلاقات بين البلدين خلال القرن الماضي من تموجات الحذر الذي تميز بفحص البيانات وتحليل المؤشرات بحثاً عن شيء قد ينهي الضيق ويأتي بالثقة، ومنها يأتي ارتفاع المنافع واتساع قنوات التعاون…
كان هذا الشعور موجوداً لدينا رغم أن العراق منذ سيطرة الجيش على الحكم عام 1958 لم ينعم بالاستقرار ولم تكن الحكومات التي تعاقبت حتى 2003، تمثل طموحات الشعب العراقي الحقيقية، فلا قاسم ولا حكم الأخوين عارف ولا حكم البعث كان ممثلاً للأغلبية، فقد ضاعت سنوات في انشقاقات داخلية فيها صدامات بين المكونات المختلفة للمجتمع العراقي، وتميزت بتواصل الخطط للانقلابات واستبدال الحكم، فانتهى قاسم بالعنف وتبعه عبد السلام عارف بحادث طائرة، وواصل شقيقه عبدالرحمن معتمداً على قبضة الجيش، وجاء البعث بحكم استبدادي دموي خانق، تحمل فيه شعب العراق ما لا يوصف من ظلم وطغيان وانتهى بعد أن ذاق شعب العراق الأمرين من جهل قياداته وتحصنها بالتآمر والمشانق للبقاء. ويظل السؤال الدائم عن الأسلوب وكيفية نقل العلاقات بين البلدين من فصل الهدوء والترقب إلى العبور إلى مرحلة تزدهر فيها العلاقات. ومع إشارة السفير العراقي إلى اجتماع اللجنة الفنية لترسيم الحدود البحرية، يسطع الأمل بالعبور إلى فصل يزيد في محتوى العلاقات، اقتصادياً واستثمارياً، وفي كل الجوانب، ويبقى ذلك أملاً يرى النور، خاصة عندما تسود الألفة بين مكونات الشعب العراقي الذي يعيش في مناخ الحرية، لكنه لم يصل إلى حل مستقر لغياب الاطمئنان بين هذه المكونات، وهو العامل الأساسي لمسببات غياب السكينة والاستقرار الداخلي، ولهذا يتواصل الجوار والآخرون من العرب وغيرهم في متابعة الوضع الداخلي انتظاراً لوحدة التفاهم بين القوى الثلاث التي يتشكل منها شعب العراق، الذي يتوقع من أصدقائه وجيرانه العبور من منصة الانتظار إلى الشراكة في خطط التنمية والاستثمار، لكن الحقيقة أن كبرى الشركات التي تستثمر وتنفذ وتبعث الفنيين والإداريين لن تساهم برؤوس الأموال من دون خطوات فيها يقين بسلامة مشاركتهم..
ومع كل ذلك، نجحت الحكومة العراقية برئاسة رئيس الوزراء الحالي في نيل ثقة المجموعة العربية ودول الإقليم والعالم الخارجي لاعتدالها في المواقف وحسن مفرداتها في التعبير وصدق جهودها في كسب الصدقات والثقة في أهدافها، وطيب نواياها في التركيز على التنمية.
وفي ما يتعلق بمسؤوليات الجوار، أجزم بأن جميع أبناء الكويت، في انتظار بروز البيئة المستقرة، وفي تأكيد الأمن المجتمعي واعتيادية الحياة في جارنا العراق، ليتصدروا صفوف الراغبين للعمل والاستثمار في جميع المجالات بما فيها الثقافة والسياحة، ونأمل أن يحقق رئيس الوزراء الأهداف التي رسمها للعراق بدعم جماعي من جميع الفئات في العراق، ونتفهم الظروف المعقدة التي يعيش فيها العراق، فبعد تلاحق الأنظمة الفاشلة منذ الثورة، حتى نهاية عصر التنكيل الصدامي، فلا بد أن تبرز اجتهادات مختلفة تكشف تنوع الاجتهادات في هذا الوضع المعقد، وكذلك مرونة في المواقف بين مختلف التجمعات، وفي سلامة النوايا، لكن الشعب العراقي يريد تحركاً إيجابياً في الاستقرار والتنمية، لذلك لابد لكل هذه المزعجات أن تختفي ليبقى العراق معافى وجاهزاً للانطلاق الذي ينتظره الجميع، لا سيما شعب الكويت المتعاطف والمدرك بأن تعافي العراق مكسب لنا وتطوره فيه فائدة كبيرة، فلا بد أن تصل ثماره إلى الكويت انسجاماً مع املاءات الجغرافيا ومسار المنطق، فأحكام الجوار التي نراها بين الدول الأوروبية وبعض الدول في آسيا وأفريقيا، لابد أن تغري كلا من العراق والكويت لاستلام فوائدها، وأسجل هذا الشعور ليس كمراقب أو مستمع لقصص يرويها الآخرون، وإنما كمدير لمكتب الشيخ صباح الأحمد ووزير الخارجية الذي يعرف الكثير من تدخلات الأمن العراقي واستصغاره لخطوط الحدود وكان الرد الكويتي استدعاء السفير وبث التذمر والشكوى والعتاب، وكنت أعد محاضر تلك الجلسات، ولا أنسى حجم الألم الذي حصل لتجاوز دوريات الشرطة العراقية حدود الكويت وتصاعد التوتر إلى درجة أن المرحوم الشيخ صباح رفض استقبال السفير العراقي، كان اسمه «الحاج» وكان السفير يتصل بي طالباً موعدا، وأترجى شخصياً الشيخ صباح لاستقبال السفير، وبعد رجاءات ومخاوف رافقت السفير العراقي إلى منزل المرحوم الشيخ صباح في الساعة العاشرة من ذلك المساء وبعد أخذ ورد، بين الشيخ صباح ووزارة الداخلية، تم انسحاب الطرفين من بقعة التوتر، كانت أياما مؤلمة، والآن نتحد بأمل كبير مع السفير المنهل الصافي ممثلاً لنظام الاعتدال، بعد تخلص الشعب العراقي من نظام الوشايات والإعدامات.
وطالما نعيش في بيئة الجوار المعتدل، فلا مفر للطرفين من توفير بيئة الانطلاق التي تحتاج إلى مناخ هادئ يغري المستثمرين ويبدد مخاوفهم، ومن الطبيعي أن يسعى الطرفان إلى التحضير لمرحلة التعريف بما يتوقعه كل طرف من فصل التغييرات والتبدلات، في قطاع البناء والانطلاق العراقي في داخل التراب العراقي وخارجه مع الاستذكار بأن الكويت هي المعبر السهل الذي ينقل ما يصدره العراق إلى الخليج، ليس سلعاً ومواد، وإنما سلوكاً ونوايا وصفاء الضمير الذي يختزنه زعماء العراق لأهل الخليج.
كان المرحوم الشيخ صباح الأحمد يدفع بقوة لعقد مؤتمرات حول إعادة إعمار العراق وكنت أشعر من أحاديثه بأنه يريد استعجال الهمة العراقية لتخلق الأجواء المناسبة لعقد تلك المؤتمرات، وكان شغوفاً في حرصه على متابعة أخبار وتطورات الأحداث، وترتفع أساريره عند سماع ما يريحه ويتمناه للعراق.
وعندي يقين بأن قيادة العراق وشعبها على وعي تام بأن زخارف الطموحات وتصنيع الإدعاءات هي الممر السريع للضياع والانكسارات، أصابت الكثير من مختلف الشعوب وفي كل القارات، ودائماً أبطالها من التفاهات ومن قطاع الطرق، الذين يسرقون السلطة عندما يغفل العقلاء وينشغل أصحاب طيب النوايا.
وفوق ذلك، أخذنا العبر من دروس الماضي، الذي لم يوفر للكويت شيئاً من الراحة منذ نهاية عصر الهاشميين المتحضر، ومرت علينا أوقات عصيبة كانت قيادات الكويت تعالجها بالصبر وطاقة التحمل والقدرة على هضم الألم والبحث عن خيط الأمل في فضاء عابس، ومع كل ذلك كان التكتم شرطاً أساسياً للاقتراب من هذا الملف، فرافقنا الصمت طوال ذلك العهد القبيح، وحتى جلسات مجلس التعاون لم يصلها ذلك الملف، لأن الأمل لم يفارق الشيخ صباح الأحمد لإيمانه بأن التعاضد العربي ورابطة العروبة تزيل الخصومات وتستخلص الحلول، وكان يرحمه الله، لا يرتاح للتباعدات العربية ويبحث عن الأفراح في المناسبات العربية ليشارك فيها، فذهب إلى عدن ليكون في ذكرى الوحدة اليمنية، مباركاً للمتلون علي عبدالله صالح، ثم إلى ليبيا في ذكرى اليوم العظيم في رزنامة القذافي، وأظهر حجم النبل لمن لا يستحق، المهم نردد مع الأخ السفير المثقف بأن ملامح الانطلاق في علاقات ثنائية قادمة ومثمرة تؤكدها اعتبارات المستقبل، التي بدأت بشائرها تطل علينا، وكلنا جاهز لاحتضانها.
عبدالله بشارة
a.bishara@alqabas.com.kw
القبس 30 ابريل 2023