• نوفمبر 21, 2024 - 3:34 مساءً

السفير صلاح المالكي يكتب.. وداعًا أستاذ كريم

كيف لتلميذ أن ينعي أستاذه الذي لم يرو بعد عطشه من التعلم منه والنهل من بحر معلوماته الغنية وخبرته الثرية، وهو مازال يتدفّق في ذروة عطائه، كيف لتلميذ أن ينعي أستاذه الذي كان يعمل معه مدة 14 ساعة مكتبية يوميًّا (أثناء عضوية البحرين غير الدائمة في مجلس الأمن 1998 – 1999 دون كلل أو ملل، كيف أصف الفضل الكبير والشرف العظيم الذي ميّزني به كتلميذ وابن في آن واحد، كيف أصف شعوري وأنا ما زلت ألملم ذكرياتي معه الطويلة التي استمرت لأكثر من 25 سنة (ربع قرن من الزمان) بكل حرقة وألم والكلمات تتبعثر وعيناي تنهمران بالدموع بكاءً على من علّمني المعني الحرفي لأجاهد بأن أصبح دبلوماسيًّا مهنيًّا مثله … فالحمد لله على نعمة الإسلام والتسليم بقضاء الله وقدره التي أهون بها علي هذه المصيبة الكبيرة والفاجعة الأليمة بفقدانه ورحيله السريع، حيث ما زلت لا أستوعب واقعها … رحمك الله يا أستاذي ومعلمي وملهمي وأبي الروحي بكل ما تحمله الكلمات الوصفية من معان.
إلى جنة الخلد يا عراب الأمم المتحدة وفاتح دهاليزها وسابر أغوارها أحببت وطنك وتعصبت بكل قوة له فكنت مثالًا للسور العظيم في الدفاع عنه بكل شجاعة وبسالة وأخلصت لقيادتك بكل ما تملك من وفاء وولاء لراية العز والفخر وكنت المخلص المجد في العمل والعطاء دون كلل أو ملل كنت مثالًا للدبلوماسي اليافع الذي شق طريق النجاح بالمثابرة والتعلم كنت أستاذًا للدبلوماسية البحرينية وخير من حمل لواءها في كل عواصم العالم بولائه وإخلاصه لقيادته ووطنه وشعبه كنت رجلًا وفيًّا لداعمك الأول ربان الدبلوماسية البحرينية ومهندسها الأول ومشيد أسسها ومسطّر موازينها وواضع مبادئها المعتدلة والمتزنة مالك صولجانها وباني أعمدتها ورافع رايتها بين الأمم معلمك وملهمك الأول وملهم جميع الدبلوماسيين البحرينيين سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة أطال الله في عمره، الممثل الخاص لجلالة الملك المعظم الذي كان حينها وزيرًا للخارجية في أحلك الظروف وأصعبها والذي لم تنفك تذكر مآثره ومناقبه عليك وما تعلمت من سموه لتعلم أجيال الدبلوماسية البحرينية في الوزارة المعنى الحقيقي للدبلوماسي الوفي.

كل دقيقة قضيتها معك كانت بمثابة سنين من التعلم سواء عندما كنت أول مدير في حياتي الدبلوماسية المهنية أو عندما زكيتني عند سموه بالابتعاث إلى مدينتك التي أحببتها وأحبتك (نيويورك الأمم المتحدة) لأكون في ذلك المبنى الزجاجي الأزرق الشاهق كما كنت تطلق عليه وتقول لي إن سمو الشيخ محمد بن مبارك يعتبره المدرسة الشاملة للدبلوماسيين من كل أنحاء العالم.. فكنت خير الداعم لي والمتابع والمحفّز.
لم أستطع منافستك في تلك المدرسة العتيدة سواء في سر نجاحك وتفوقك فيها أو في حبك للعمل داخلها ولكن كنت أحاول أن أجاريك بكل ما أستطيع من جهد لعليّ أبلغ ما بلغت من معرفة واطلاع ولكن هيهات أن يكون لك شبيهًا فأنت عرّاب الأمم المتحدة الذي عاصرت أوج عملها التقليدي في أحلك الظروف وأقساها وأجملها في آن واحد، وبنيت خبرة متراكمة كبيرة لن يستطيع أحد غيرك بلوغها.
ومع ذلك كنت متواضعًا خلف أي معلومة سواء من صغير أو كبير، كنت متواضعًا ولا تعتد بنفسك مهما بلغت من العلم والمعرفة، وداعًا أستاذ كريم الشكر وداعًا يا ابن البحرين البار وابن وزارة الخارجية المخلص الذي لن تلد الوزارة مثله فكنت المخلص لها حتى آخر لحظة في حياتك لن ننساك ولن تنساك البحرين ولن تنساك وزارة الخارجية التي كنت فيها قبل رحيلك بأيام وكأنك تودعها لن تنساك الوزارة بكل أركانها وشخوصها ومكاتبها وموظفيها وزملائك وتلاميذك وأصدقائك في مشارق الأرض ومغاربها، ولن ينساك ذلك المبنى الأزرق العتيد في نيويورك وكل دهاليزه وقاعاته التي كنت تصدح بها بكلمات وثقت في وثائقها ولن ينساك من زاملك وعاصرك في تلك الفترة وفي مقدمتهم صديقك الصدوق الشهم الوفي أخوك الذي لم تلده أمك نديمك وخليلك في السراء والضراء السفير محمد أبو الحسن والصولات والجولات بينكما ولن تنساك دولته دولة الكويت الشقيقة ورجالها الأوفياء المخلصون الذين لم ينسوا مواقفك أثناء الغزو الغاشم عليها سواء أثناء تواجدك في نيويورك عندما اقترحت استخدام مصطلح “الغزو” بدل كلمة “عدوان” أو نشاطك في العاصمة لندن في تلك الفترة الحرجة ولن ينساك عمرو موسى وجميع دبلوماسي العالم الذين عرفوك وستبقى مثلًا حيًّا لنا جميعًا في المعنى الحقيقي للدبلوماسي المحنك المعطاء في حبك وعطائك وإخلاصك.. فقد كانت آخر أمنية تسعى لتحقيقها هي أن تجمع كلمات سمو الشيخ محمد بن مبارك آل خليفة في الدورات الاستثنائية للجمعية العامة لتهديها لسموه وكنت تنوي الذهاب إلى نيويورك من أجل ذلك وكان آخر اتفاق بيننا أن نرتّب جميع الكتب بمواضيعها في مكتبتك الخاصة وكانت آخر هدية استلمتها من يدك قلمًا عليه شعار مملكة البحرين وكتابًا لم أستلمه وسط الكم الهائل من الكتب (سموحي فوق العادة) الذي يعتبر مرجعًا لكل الدبلوماسيين حيث لا أنسى نصيحتك ووصيتك لكل دبلوماسي (اقرأ ثم اقرأ ثم اقرأ).
كنت فريدًا من نوعك بكل المقاييس وفيًّا لقيادتك وكريمًا بعطائك ومحلقًا بنشاطك الذي لا مثيل له ولعلّ أبلغ شاهد على ذلك رحلتك الأخيرة للهند التي كانت بتاريخ 18 يوليو 2023 للبحث عن وثائق تاريخية من الجامعة التي تخرجت منها وعندما سألتك متى تعود من رحلة السفر ذكرت لي حجزت رحلة ذهاب فقط لأنك لا تعرف متى ستنهي مهمة البحث عن تلك الوثائق وفعلًا كانت رحلة ذهاب ووداع أخيرة عن أحبابك بصمت وسرعة ومفاجئة فاجعة لم أتوقعها أبدًا.
رحمك الله يا أبا أريج رحمك الله بعدد النجوم يا كريم العطاء المهني والدبلوماسي الفريد والسخاء الإنساني النفيس والأبوي العظيم لكل من عرفك وداعًا أستاذ كريم عند رب كريم.
وعزائي الكبير لكل محبيك.

ابنك وتلميذك
صلاح علي المالكي

سفير مملكة البحرين لدى دولة الكويت

الأيام البحرينية 25 يوليو 2023

Read Previous

الصالون الثقافي العربي يحتفل بإصدار كتاب “300,000 عام من الخوف ” للمستشار جمال أبوالحسن بالأوبرا

Read Next

«الأهلي» يحقِّق 23.9 مليون دينار أرباحاً في النصف الأول

0 0 votes
تقييم المقال
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

Most Popular

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x