• نوفمبر 24, 2024 - 12:46 صباحًا

اللاجئ.. والوطن

ارتبطت في أذهاننا لعدة عقود كلمة اللاجئين بالشعب الفلسطيني ومنظمة إغاثته «الأونروا»، فإذا نحن الآن أمام شعوب عربية تصدّر اللاجئين والنازحين إلى «أوروبا» في ظروف إنسانية مؤلمة جسّدتها «صورة طفل» في الثالثة من عمره وقد قذفت به أمواج «البحر الأبيض المتوسط» إلى الشاطئ، بعد أن غرق المركب الصغير الذي يحمل المئات من الباحثين عن الحياة، هروبا من جحيم الموت في بلادهم التي لفظتهم إلى الشتات والضياع والتشرد، في وقت توصد فيه بعض الدول الأوروبية أبوابها أمامهم، وسط جدل دولي صاخب يناقش قضية اللاجئين عموما ويوزع أعدادهم على الدول التي تسمح باستقبالهم، و«مصر» ليست دولة جديدة على استقبال مَن لجأ إليها، بل إنها «الكنانة» التي استضافت الثوار من أنحاء الدنيا، والملوك والرؤساء والحكام الذين لا يجدون مأوى، ومازلنا نتذكر طائرة شاه إيران «محمد رضا بهلوي» وهي تجوب الأجواء بين الأصدقاء والحلفاء عندما رفضه الجميع، بما في ذلك «الولايات المتحدة الأمريكية» التي تخلت عن حليفها كعادتها، ولم تستقبله إلا «مصر السادات»، لأنها تفتح ذراعيها لكل ذي حاجة أو مَن يطلب اللجوء إليها أو النزول إلى أرضها الطيبة، والذين لا يقدرون مرارة كلمة (لاجئ)- خصوصا إذا كان مواطنا عاديا، هو وأسرته وأطفاله هاربون من جحيم المعارك ونيران القنابل وبشاعة «الإرهاب»- لا يعرفون على الجانب الآخر معنى كلمة (وطن)، التي لا يدرك حقيقتها إلا مَن يفقد ذلك الكيان الغالي، وقديما قال حكيم: (الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى)، كذلك قال الشاعر العربي: (لا يعرف الشوق إلا مَن يكابده ولا الصبابة إلا مَن يعانيها)، ونتذكر هنا ما قاله أمير الشعراء: (وطني لو شُغلت بالخلد عنه نازعتني إليه في الخلد نفسي)، وينطبق هذا القول على أولئك الذين يفقدون أوطانهم ويجدون أنفسهم وقد ضاقت بهم الدنيا ولفظتهم الأرض ورفضتهم الدول وهم يقفون على الأسوار الشائكة عند الحدود المغلقة، ولعل ما يحدث للشعب السوري الشقيق هو كارثة بشرية مروعة ومأساة إنسانية لم يكن أحد يتوقع حدوثها، فالشعب السوري كان يستقبل اللاجئين من «فلسطين»، وأحيانا من «لبنان» و«العراق»، فإذا به اليوم يتحول من مضيف كريم إلى ضيف غير مرغوب فيه، و«السوريون» ليسوا أي شعب، لأنهم دعاة الوحدة وحملة لواء القومية منذ منتصف القرن التاسع عشر، إنه البلد الذي جزع أمير الشعراء أيضا عند عدوان «فرنسا» عليه في الربع الأول من القرن الماضي عندما قال: (لحاها الله أنباء توالت على سمع الولي بما يشق)، ومضى في رائعته حتى قال: (وعز الشرق أوله دمشق)، ونحن هنا في «مصر» لدينا ارتباط خاص بالشعب السوري، فقد خضعنا معا لحكم واحد مرتين، الأولى في القرن التاسع عشر (1831 – 1840) والثانية في القرن العشرين (1958 – 1961) في عهدي التوسع المصري بقيادة «محمد علي» في الأولى، و«جمال عبدالناصر» في الثانية، ومازلت أتذكر ما قاله لي زملائي الدبلوماسيون الذين ذهبوا لإعادة فتح السفارة المصرية في «دمشق» عند نهاية ثمانينيات القرن الماضي، وكيف أخذهم سائق «التاكسي» السوري عندما لاحظ لهجتهم المصرية إلى منزله مباشرة ضيوفا لتناول طعام إفطار رمضان لديه وقد كانوا متوجهين إلى مطعم معروف، فإذا الحب السوري للمصريين يدفع ذلك المواطن العادي إلى قراره الذي يعكس متانة العلاقة بين البلدين وأصالة الشعب السوري الذي أصبح اليوم شعب الشهداء واللاجئين والنازحين، وليس المهم عندي مَن يحكم «سوريا»، ولكن الأهم هو أن تبقى «سوريا»، التي تنهشها الأطماع الإقليمية من «إسرائيل» إلى «تركيا» و«إيران»، وتعبث بأرضها جماعات إرهابية وحشية دمرت الآثار وعبثت بالتاريخ وزيفت الدين وسفكت الدماء وذبحت الأبرياء وهي تحاول طمس الهوية القومية لذلك البلد العريق، إذ إن «دمشق» واحدة من أقدم مدن الدنيا على الإطلاق، وهي شاهدة على كل عصور التاريخ المكتوب، وعندما أسمع عن «البراميل» المتفجرة تمطر الشعب السوري فلابد أن يصيبني حزن بغير حدود، والعالم يلهو متفرجا وقد يمصمص البعض الشفاه في مواساة ظاهرية لا تقدم ولا تؤخر، ولعل المشهد المأساوي لمراكب الموت تمخر عباب «البحر الأبيض المتوسط» متجهة إلى المجهول، هربا من الجحيم، هو تجسيد حي لمأساة الشعب السوري الأبي الذي احتضن «العروبة»، بعدما استقبل قبلها «المسيحية» و«الإسلام» على التوالي.
إنني أتطلع إلى دور مصري قوي وفاعل يقود «الجامعة العربية» نحو موقف قومي موحد لإنقاذ «سوريا»، الدولة والوطن والشعب، خصوصا أن سقوطها المحتمل وتقسيمها المنتظر لن ينعكس على «دول الجوار» وحدها، ولكنه سوف يفتح بوابة الأطماع الأجنبية في الأرض العربية كلها بغير استثناء، ولاسيما أن الجهود الدولية لإنقاذ «سوريا» بطيئة وباردة، في ظل وضع إقليمي متراجع بفعل الأحداث التي شهدتها المنطقة في السنوات الأخيرة، ويجب ألا ننسى أن القهر والاستبداد والفساد هي الخلفية المعتادة لقيام الثورات وسقوط الأنظمة ووقوع المآسي والكوارث والنكبات.

Read Previous

الاتفاقية والاتحاد… بين المزايدة والنفاق!

Read Next

ليس أمام الحكم إلا علاج الكي

0 0 votes
تقييم المقال
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 تعليقات
Inline Feedbacks
View all comments

Most Popular

0
Would love your thoughts, please comment.x
()
x