في كلمته التي ألقاها، ترحيبا واحتفاء بغبطة البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس والوفد المرافق له بمناسبة زيارته الكويت، لتنصيب المتروبوليت غطاس هزيم مطرانا على بغداد والكويت وتوابعهما للروم الأرثوذكس، تناول سمو الشيخ ناصر المحمد عددا من القضايا المهمة والدقيقة المطروحة حاليا، على الصعيدين الإقليمي والدولي، باعتبارها قضايا كونية وإنسانية، لا تتعلق بمجتمع بعينه، بل تتعلق بالإنسان من حيث هو إنسان، وفي كل ركن من أركان هذه المعمورة.
لقد تناول سموه قضايا تتصل بمبادئ التعايش والتواصل والحوار بين أصحاب الأديان والحضارات والثقافات المختلفة، منطلقا فيما طرحه من رؤية كويتية وعربية وإسلامية، عبر عنها بصورة رائعة، مستدلا عليها بشواهد من القرآن الكريم وأحاديث النبي – صلى الله عليه وسلم – وسيرته العطرة، وكذلك شواهد من الإنجيل وحياة السيد المسيح – عليه السلام – ليبين أن الرسالات السماوية كلها تصدر من «مشكاة واحدة»، بحسب التعبير النبوي، وأنها جميعا جاءت لتصل إنسان الأرض بنورانية السماء، ولإشاعة السلام والمحبة بين بني البشر أجمعين.
من هنا فقد حرص سمو الشيخ ناصر المحمد على أن يبين كيف أن الإسلام ينظر نظرة راقية وودودة إلى أهل الكتاب، من أتباع الديانتين السماويتين اليهود والنصارى، مستشهدا في ذلك بقول الله تعالى في كتابه الكريم «ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين»، وكذلك بالآية الكريمة «ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون».. وهما شاهدان يفتحان الطريق واسعا أمام إمكان إقامة حوار جاد وراق ونافع أيضا بين المسلمين وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ويزيلان الكثير من الحواجز التي يقيمها من لا يعون حقا جوهر الأديان ورسالتها العظيمة وقيمها السامية.
وقد كان سموه موفقا غاية التوفيق أيضا، وهو يلمس بعدا شديد الأهمية في حياتنا المعاصرة، ونعني به ذلك الاضطراب الذي أصاب الإنسان في زمننا الذي – كما وصفه سموه – «ترتقي فيه الإنسانية ذرا المعرفة، لكنها في الوقت نفسه تتحدر فيه إلى وحشية العدوان وهمجية الاقتتال. إنه زمن يحتاج إلى عقلاء ينحازون إلى الإنسان ضد العنصرية، وحكماء يحابون الحياة ضد الهلاك، ويفتحون أفق الحوار إلى آفاقه الواسعة، ويحطمون جدران الانزواء والانغلاق والتعصب القاتل». ومن ثم فإننا في عالمنا هذا، ووفقا لرؤية سموه أيضا، نحتاج إلى أهل الاعتدال من رجال وعلماء الدين، فالعنف والفتك والقسوة كلها تحوطنا من كل جانب، مغلفة بتفسيرات خاطئة للدين، ويظهر لنا أناس بلباس الدين وأخلاق المجرمين، وحالهم مثلما تقول الحكمة اللاتينية «في وجهه حمل وفي قلبه ذئب».
ولا يجادل أحد في أهمية هذه الرؤية التي طرحها سمو الشيخ ناصر المحمد، والمتمثلة في ضرورة إقامة التوازن بين المادة والروح، في حياة الإنسان، وفي حياة المجتمعات أيضا، بل وكذلك في العلاقات بين الأمم والشعوب، فالمادة وحدها إذا طغت أهلكت، وقطعت الأواصر والصلات، ونشرت العداوة والبغضاء، وأثارت الإحن والأحقاد، وأشعلت الحروب والصراعات، وعممت الخراب والدمار في كل مكان… ومن ثم فإنه لا غنى للإنسان عن الجانب الروحي الذي يعيد له توازنه، ويحفظ عليه استقامته ونقاءه، ويقربه من الخير ويبعده عن الشر.
ولكي يوضح سموه بجلاء أن الأديان السماوية لم تأت فقط من أجل الآخرة، بل أيضا من أجل إعمار الحياة الدنيا، لفت إلى أن «روح التسامح التي نطالب بها ليست من أجل الآخرة فقط، بل كذلك من أجل الحياة الدنيا فهي ضرورة حتمية للسلم الاجتماعي في الأوطان»، يستوي في حاجته إليها المسلم الفرنسي الذي يعيش بين أغلبية كاثوليكية، والمسلم الألماني الذي يعيش بين أغلبية بروتستانتية، أو المسلم الإنجليزي الذي يعيش بين أغلبية أنجليكانية، وكذلك المسلم الروسي الذي يعيش بين أغلبية أرثوذكسية، غير أنها ضرورية أكثر للمسيحي العربي وهو يعيش في وطنه بين أغلبية مسلمة، ووطنه هو نفسه وطن موسى ووطن عيسى ووطن محمد، عليهم جميعا أفضل الصلاة والسلام.
ولم تكن مجرد مجاملة، تلك الإشارة الذكية التي ألمح إليها سمو الشيخ ناصر المحمد، بل كانت أيضا في صلب الموضوع وجوهره، عندما ذكر أن هذه الروح التي يتطلبها العالم الآن، هي ذاتها التي تطرق إليها البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، في موعظته في حفل تنصيبه، عندما قال: «نحن الأنطاكيين كنيسة مشرقية جذورها ضاربة بعمق في منطقتنا ومشرقنا العربي، ونحن مع إخوتنا المسلمين أبناء هذه الأرض… أيها الأعزاء المسلمون نحن وإياكم لسنا فقط شركاء في الأرض وفي المصير، نحن بنينا معا حضارة هذه البلاد، ومشتركون في الثقافة والتاريخ. لذلك يجب علينا أن نحفظ معا هذه التركة الغالية، كما أننا شركاء أيضا في عبادة الله الواحد الأحد الإله الحقيقي نور السماوات والأرض».
لقد حمل هذا اللقاء المبارك الذي احتضنه ديوان سمو الشيخ ناصر المحمد، الكثير من الإشارات الرائعة الدالة على حجم التآخي بين أتباع الديانتين الإسلامية والمسيحية، وترجمت كلمة سموه هذه المعاني النبيلة السامية، مؤكدة المبدأ العظيم الذي أرساه القرآن الكريم وعلمه لأتباعه ليكون نبراسا هاديا لهم إلى يوم الدين، حين قرر لهم بشكل لا يقبل الجدل أو الخلاف أن الناس جميعا متساوون، لا فرق بينهم على أساس اللون أو العرق أو اللسان، وأن الميزان الوحيد الذي يتمايزون من خلاله هو التقوى والعمل الصالح، وذلك في قوله تعالى «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل ولتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم». هذه هي الرسالة الأسمى من خلق الإنسان، وتلك هي المعاني والقيم التي نجحت في إيصالها كلمة سمو الشيخ ناصر المحمد، والتي زاد من أهميتها أنها جاءت في وقت يضطرب فيها العالم فكريا وسياسيا واجتماعيا، في أعقاب الأحداث الإرهابية التي شهدتها فرنسا أخيرا، وهو ما يتطلب من كل رجال الدولة والسياسة والفكر في العالم، أن يتشاركوا في إيصاله وإيضاحه، إسهاما في نشر الإخاء والأمن والسلام بين كل بني البشر.