عندما كنا ندرس تاريخ العلاقات الدولية في القرن التاسع عشر وما بعده كانت العبارة التالية تتردد في معظم الكتب والدراسات المعنية بالسياسة الخارجية الروسيةــ قيصرية أو سوفيتيةـ (إن «الدب» يسعى إلى المياه الدافئة) لأن الذي يدرس الخريطة التي تحدد ملامح جغرافية «روسيا» سوف يكتشف أنها دولة قارية كبرى تشغل مساحة في «شرق أوروبا» وتمتد في «شمال آسيا» لتصل إلى حدود القوى الكبرى في تلك القارة الضخمة وهي تعاني تاريخيا وجغرافيا من البحار المغلقة أو المياه المتجمدة لذلك فهي تسعى دائما نحو البحار المفتوحة وتتجه أحيانا إلى الجنوب الشرقي ولكن دائما إلى الجنوب الغربي لعلها تصل إلى الشواطئ التي تسمح لها من النواحي الاستراتيجية أن تنتصر على الوضع «الجيوبوليتيكي» الذي فرضته الطبيعة عليها، وعندما هزمت «اليابان» «روسيا» عام 1905 تحطم الوهم الروسي في الوصول إلى «بلاد الشمس المشرقة» ولكن ظل سعيها دؤوبا للسيطرة على مناطق خارج حدودها ساعدها في ذلك «الأيديولوجية الماركسية» والتبشير بـ«المجتمع الشيوعي» القادم فامتد نفوذها الكاسح في شرق «أوروبا» ثم اتجهت «روسيا السوفيتية» بعد ذلك جنوبا نحو «الشرق الأوسط» حيث فصلت إلى حد كبير بين «الأيديولوجية الماركسية» البحتة والتطبيق الاشتراكي المعتدل فحققت غزوا ناجحا لجيلين كاملين من أبناء المنطقة العربية إلى أن فتح لها الزعيم الراحل «جمال عبدالناصر» ساحة «الشرق الأوسط» من خلال البوابة المصرية وفي كل الأوقات كان حلم المياه الدافئة يراود العقل الروسي دون توقف، وقد جاء على «موسكو» حين من الدهر بدت فيه شاحبة متراجعة بعد سقوط «الاتحاد السوفيتي السابق» وساد إحساس دولي عام بأننا لو رفعنا الترسانة الهائلة للسلاح الروسي فإننا نكون أمام دولة من دول العالم الثالث ولم تعد «روسيا الاتحادية» ندا لـ«الولايات المتحدة الأميركية» لأكثر من عقدين أو ثلاثة من الزمان حيث انتقل العالم من «الثنائية القطبية» في العلاقات الدولية إلى «نموذج القطب الواحد» وسلم الجميع بأن «الولايات المتحدة الأميركية» هي القوة الوحيدة الأعظم في الكون، وبدون مقدمات طويلة برزت شخصية أسطورية على المسرح الروسي وأعني بها ضابط الاستخبارات السابق «فلاديمير بوتين» الذي استطاع أن يعيد لـ«روسيا» هيبتها وأن يزاحم سياسات «واشنطن» بل وتمكن في النهاية من كشف جزء من أوهام السياسة الأميركية على نحو هز ثقة بعض حلفائها بها ولعل المشهد الحالي في «الشرق الأوسط» هو خير شاهد على ما نقول فقد تمكنت «موسكو» ببراعة خاطفة من أن تسرق الأضواء وأن تجعل التركيز على ما تقوم به كما لو كان هدفا دوليا وإقليميا بالرغم من أنه يحقق في الأصل هدفا روسيا بحتا، فالطيران الروسي الذي يدك القواعد العسكرية ومراكز التسليح لتنظيم «داعش» الإرهابى لا يفعل ذلك من أجل عيون شعوب المنطقة وأمنها واستقرارها فقط ولكنه يسعى إلى ضرب المعارضة السورية والإجهاز عليها والتمكين لنظام «بشار الأسد» باستعادة ما فقده من أراضٍ ومدن لأن «موسكو» مازالت تراهن على «نظام الأسد» باعتباره الضامن الباقي للنفوذ الروسي «شرق البحر المتوسط» والذي يفتح لقاعدتها البحرية موقعا على المياه الدافئة فليس يعني «موسكو» أن تظل «سورية» دولة متماسكة موحدة ولكن الذي يعنيها هو أن يظل نظام «الأسد»ــ أو أقرب بديل إليه ضامنا للمصالح الروسية مع التواجد في المياه الدافئة لـ«البحر الأبيض»، و«بوتين» يدرك أن «إيران» تبارك في صمت ما يفعل، وأن «تركيا» ترفض في صخب ما يقوم به! ولكنه يدرك أيضا أن «الولايات المتحدة الأميركية» لن تسعى إلى مواجهة معه بسبب ضعف مصداقيتها في المنطقة وترددها الطويل في مواجهة تنظيم «داعش» الذي لم تواجهه بحزم منذ البداية ربما لأنها شاركت من قبل في صنعه! أما الدول العربية الأخرى فهي تتوافد على العاصمة الروسية تباعا اعترافا بدورها وتسليما بأهميتها، و«الدب الروسي» صاحب «اليد الثقيلة» يدرك جيدا أن تنظيم «داعش» الإرهابي إنما يتكون في أساسه من فلول الجيش العراقي عندما فعل القائد الأميركي «بريمر» جريمته التاريخية بحل ذلك الجيش بعد الغزو مباشرة يضاف إليه مجموعة كبيرة من محاربي «الشيشان» الذين يستهدفهم «بوتين» ويتعقبهم في كل مكان، فـ«الدب الروسي» لم يقدم على المغامرة العسكرية الضخمة لكي يفتح مستنقعا يغرق فيه ولكنه يسعى إلى تكريس دوره في المنطقة وفرض سيطرته على أطرافها واستعادة دور «روسيا» الدولي من خلال بوابة «الشرق الأوسط» بعدما حاول ذلك منذ سنوات قليلة من خلال بوابة الجوار المباشر فيما يسمى بالصراع حول «القرم»، إن «بوتين» الذي افتتح أكبر مسجد إسلامي في «أوروبا» منذ أسابيع في «موسكو» لا يعادي «الإسلام» دينا ولكنه يرفض توظيفه كسياسة تعادي البشر في كل مكان، فالإسلام أعظم وأرفع وأكبر من أن تقيم باسمه جماعة إرهابية دولة تنسب نفسها إلى ذلك الدين الحنيف، إنه «الدب» الذي يسعى إلى المياه الدافئة.