هل كُتِبَ على الدول المتخلفة سياسيا أن تخضع لدورة شريرة تتأرجح فيها بين «الاستبداد» و«الإرهاب»؟ لقد سقطت ديكتاتورية «صدام» فضرب «الإرهاب» «العراق» من كل اتجاه، وسقطت ديكتاتورية «القذافي» فضرب «الإرهاب» «ليبيا» أيضا، وحاول السوريون الإطاحة بنظام حكم عائلة «الأسد» فاستبدلوا بهم إرهابا من نوع خبيث، وعندما قامت «ثورات الربيع العربي» تصور الجميع أنهم يتخلصون من قبضة الفساد والاستبداد في وقت واحد، ولكن معظم تلك الدول التي تخلصت من قبضة حكم «بوليسى» تعرضت هي الأخرى لموجات إرهابية تحاول تقويض استقرارها وتسعى لأن تعصف بأمن شعوبها، وكأنما هو قدرنا إما أن نقبل بالاستبداد أو ننتظر «الإرهاب»، وأنا ما زلت أتذكر حوارا ثريا بيني وبين النائب اليساري الناصري المخضرم «كمال أحمد»، عندما كنا زملاء في «مجلس الشعب» الأسبق وسافرنا معا ضمن وفد برلمانى، أتذكر أن الرجل قال لي بحكمته وثقافته «إننا نعيش فى إطار دائرة محكمة ننتقل فيها من الاستعمار إلى الاستبداد»، وها أنا اليوم أراجع ما قاله ذلك السياسي الحصيف، ولكن استبدل بالاستعمار «الإرهاب» بصوره وأشكاله المختلفة، إن الحكام الذين أزيحوا من مقاعدهم يذكرني معظمهم بـ«حراس الملاهي» فإما أن يقبل العاملون والعاملات سطوتهم أو يكون البديل عدوانا من خارج المكان عندما يكتشف الآخرون أن البلطجي الكبير، قد اختفى فأصبح من حق آلاف البلطجية الصغار أن يتسللوا في العمق يخيفون المجتمعات ويروعون الناس، لذلك فإن القضية تدور حول هذه المعضلة الكبيرة أو المعادلة الصعبة والتي لا يكون لها حل إلا بالتنمية والديموقراطية في وقت واحد والفكاك من سطوة الفساد المستبد والقهر الدائم، معتمدين في هذه الحالة على مناخ جديد لا يصنعه إلا التعليم والثقافة والإعلام والمؤسسات الدينية لأنه يأتي نتيجة وعي مختلف ورؤية جديدة وإيمان بفلسفة التطور وروح العصر، ولعلنا نطرح هنا محاور ثلاثة يدور حولها مفهومنا للخلاص من الدائرة المغلقة والحلقة الشريرة نطرحها فيما يلي:
أولا: إن «الفقر» قنبلة موقوتة، كما أنه لا حرية مع العوز، ولا ديموقراطية مع الحاجة، لذلك فإن الأخذ بالشعوب على طريق التنمية ورفع مستويات المعيشة من لزوميات الخلاص مما نواجه سلبيا في هذه المنطقة من العالم، إذ إن الحرية السياسية مرتبطة بالحرية الاقتصادية فمن لا يملك قوت يومه لا يملك القرار في غده، لذلك فإن الإصلاح الاقتصادي يمثل مدخلا طبيعيا للتخلص من المعاناة التي نعيشها والأزمات التي تحيط بنا، كذلك فإن التفاوت الطبقي الكبير وغياب العدالة الاجتماعية عاملان يؤديان إلى تدمير تماسك المجتمعات ويعصفان بوحدة الشعوب، وقد يقول قائل ولكن هناك ديكتاتوريات تحكم دولا ثرية ونظما تسلطية تقود بلادا فيها من مصادر الثروة الطبيعية والبشرية ما يمكن أن يجعل الحياة فيها رخاء سخاء آمنة، وهنا يكون الرد المباشر أن ذلك لا يتحقق في النهاية إلا بمناخ سياسي سوى وإحساس مشترك بالمسؤولية بين من يملكون أكثر مما يحتاجون وبين من لا يملكون ما يحتاجون.
ثانيا: إن «الديكتاتورية» ليست بالضرورة عسكرية أو طبقية أو عشائرية، ولكنها يمكن أن تكون «ديكتاتورية دينية»، ولقد شهدنا نماذج، لذلك في عدد من الأقطار العربية بعد «ثورات الربيع العربي» وقبلها، فالدولة الدينية هي تعبير عن مصالح سياسية يجرى فيها استخدام الدين وتوظيف تأثيره لخداع العامة وبسطاء الناس بحيث تتحول الدعوة الروحية السمحاء إلى مخدر مزمن يسلب الناس عقولهم، والعجيب أن ذلك يأتي حاليا في ظل «الإسلام» الحنيف وهو دين العقل قبل النقل لأنه هو «الإسلام» الذي جعل التفكير فريضة، واعتبر أن ما تتوافق حوله الأمة هو تعبير عن المصلحة العامة واستجابة للضرورة لأن الناس في كل زمان ومكان «أعلم بدنياهم».
ثالثا: إن «الإرهاب» داء العصر وهو مرض لعين عرفته البشرية في مراحل مختلفة من تطورها، وهو يحاول اقتلاع الجذور وتقويض الأعمدة وضرب مسيرة الإنسان بأسلوب عشوائي همجي لا يعبر عن دين ولا ينتسب لأمة، لذلك فإن «الإرهاب» ليس جديدا على الإنسانية، ولكن ضعف المجتمعات ونقص المناعة السياسية والثقافية هما مكون رئيس يتسلل به الإرهاب إلى صفوف الآمنين، لذلك فإننا نظن أن الحل في التعليم في المقام الأول ثم الثقافة المكملة له ومعهما مناخ إعلامى وطني وشريف ومتوازن، مدعومين برجال دين يفهمون صحيحه ودعاة يتقون الله فيما يقولون، خصوصا في بلاد ينهشها الفقر، وتعبث بها الأمية، وتنخر في عظامها الخرافة ومعاداة العلم وإنكار الحقيقة.
إن الأمة العربية بل الشعوب الإسلامية تمر بمنعطف خطير، يسعى فيه التطرف إلى استخدام العنف في محاولة لإرهاب الشعوب وتخويف الناس فإما أن يقتلوهم وإما أن يحكموهم! لذلك فإن البحث العلمي والتقدم التكنولوجي والقضاء على البطالة وفتح النوافذ لاستثمارات جديدة هي كلها عوامل تؤدي إلى ضخ الثقة عند الشباب وتجديد الأمل لديهم في مستقبل أفضل وحياة مستقرة بعد طول معاناة في أهوال المعيشة اليومية ومشكلاتها الطاحنة، إننا نقول إن هناك طريقا ثالثا لا هو تحكم ديكتاتوري ولا «إرهاب»، إن هذا الطريق الثالث هو الذي يجب أن نسلكه للوصول إلى غاياتنا مهما كانت المصاعب والمتاعب والتحديات.
.. لا للإرهاب ولا للاستبداد فسوف نفتح الدائرة المغلقة ونكسر الحلقة الشريرة لأن ذلك هو الأسلوب الوحيد الذي لا بديل عنه!